مباشرةً بعد الإعلان عن الحكم بحق السوري إياد ا. المتهم بارتكاب جرائم بحق الانسانية، بدأ اللغط يدور حول قرار الإدانة الصادر عن المحكمة الإقليمية العليا في مدينة كوبلنز الألمانية، الذي أحدث ما يشبه الانقسام بين السوريين؛ بين مؤيد للحكم وصولاً لمن يراه متواضعاً من جهة، وبين من رأى الحكم مفتقراً إلى العدالة ويصل إلى حد التجني على المحكوم عليه من جهة أُخرى، كونه من المنشقين عن نظام الأسد في وقت مبكر من الثورة السورية، الأمر الذي جعله مطلوباً للنظام ومحسوباً بالتالي على السوريين ومعارضتهم، التي يفترض بها توفير الحماية له، لا تقديم أدلة لإدانته.
رغم أن من أصدر الحكم في كوبلنز هي محكمة مستقلة في بلد أوربي، وتوفرت لأطراف الدعوى بمن فيهم المتهم ضمانات محاكمة عادلة، من قبيل توكيل محامي وتقديم ما قد تكون لديهم من أدلة وشهود إدعاء أو براءة، وكون المحاكمة علنية مفتوحة يمكن لما أراد حضورها وتسلط عليها عدسات التصوير، إلا أن البعض جردها من كل عوامل الحياد هذه وطعن في شرعيتها، وحمَّلها فوق ذلك أكثر مما تحمل، فاعتبرها محاكمةً لنظام الأسد ورجالاته، على كل ما ارتكبوه من قتل وتدمير بحق السوريين، لذلك عندما صدر الحكم، اعتبره البعض لا يتناسب مع الجرائم التي لا زالت ترتكب في سوريا، بينما ذهب البعض إلى اعتباره سكوتاً عن جرائم النظام وإدانةً لأحد المنشقين عنه إن لم يكن على الثورة السورية.
الحقيقة هي أن محاكمة كوبلنز كانت لفرد واحد وليست لنظام أو معارضة أو ثورة، جرت للمتهم بصرف النظر عن عمله السابق أو انتمائه وموقفه من النظام فيما بعد وكذلك موقعه، وقد حكمت عليه المحكمة بما توفر لديها من أدلة ضده شخصياً، جرى طرحها خلال جلسات المحاكمة ومناقشتها معه باستفاضة ومنحه الفرصة لتفنيدها، وبناءً على مناقشة أدلة الدفاع التي يحق له تقديمها، وقد خففت الحكم عليه بسبب تعاونه معها وتسهيله بالتالي إجراءات التقاضي، فليس هناك سابق معرفة بين المتهم وبين المحكمة أو ثأر بينهما، وإذا كانت للسوريين تقديراتهم في هذا الشأن من جهة انشقاق المحكوم عليه، واعتبار ذلك كافياً لتكفير الشخص عن ماضيه، ووجود آخرين ارتكبوا الفظاعات ينبغي اعطاء الأولوية لملاحقتهم وانتظار محاكمتهم للتحرك ضد من هو أقل أهميةً، فإن مثل هذه العوامل لا تؤخذ بعين الاعتبار أمام القضاء الألماني، طالما أن أركان الدعوى من وجود إدعاء ومتهم وأدلة وقانون مكتملة، ومن حقه السير في الدعوى حتى نهايتها، تطبيقاً للقانون الألماني الذي يتقاطع مع العدالة الانتقالية التي ينادي بها السوريون.
ربما تكون للظروف التي صدر فيها الحكم في كوبلنز دورها في الانقسام الحاصل، خاصةً بسبب كونه سابقة تحصل للمرة الأولى بعد عشر سنوات من الثورة السورية، مع وجود آلاف إن لم يكن عشرات آلاف منتهكي الفظاعات في سوريا بحق مئات آلاف الضحايا؛ وكذلك في ظل استمرار تلك الانتهاكات وبقاء مرتكبيها حتى اللحظة بعيداً عن متناول العدالة، وسيختلف الوضع بالتأكيد إذا جردنا الحكم من كل تلك الظروف التي لا علاقة له بها، وحاكمنا أفعال المحكوم عليه وفق الزمان والمكان الذي جرت فيه، حيث كان ما يبدو أفعالاً بسيطة يمكن التسامح معها مقارنة بما تلاها؛ اعتداءات كبيرة شكلت مقدمات لها وأساساً لاستمرار الوضع الحالي، ولربما كان حكمنا أكثر انصافاً وتوافقاً مع ما ذهبت إليه المحكمة في قرارها.
من نافلة القول أنَّ العدالة واحدة لا تتغير بتغير الزمان والمكان، لا تتجزأ وتُفصّل على مقاس الضحية أو الجلاد ولا تتأجل إذا توفرت أركان تحقيقها، والحكم بالبراءة مع توفر أدلة على الإدانة أو بأحكام قاسية بما لا يتناسب مع الفعل؛ لا وجود له إلا في قضاء ثوري تملكه جهات غير شرعية. أما سورياً فالمنطق يقول بعدم اعتبار كل انتهاك لحقوق الانسان مسألة ثأر شخصي بين طرفيه، بحيث يجب على الآخرين السكوت عنه إذا لم يكن مساهم شخصياً، وربما الدفاع عمن قام به لاعتبارات تم التطرق إلى بعضها أعلاه، بل يجب النظر إلى مثل هذه الأفعال ضمن سياقها، والاستماع إلى الضحايا أولاً، وعدم دفعهم مع نشطاء حقوق الانسان إلى التلفت حولهم خشيةً، وكأنهم يرتكبون قباحةً كلما أرادوا التوجه إلى القضاء، وإلا كان الأولى إغلاق هذا الباب، وترك الأمور تتابع سيرها المنفلت.