غزة والكلامولوجيا بين مؤتمرين

الرئيس الامريكي دونالد ترامب
الرئيس الامريكي دونالد ترامب

(عن القدس العربي)

صادفت زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لثلاث دول خليجية، المنتظرة منذ وقت طويل، في الذكرى السابعة والسبعين للنكبة، وفي هذه الذكرى، أيضا ترتكب دولة الاحتلال أكبر عمليات الإبادة الجماعية، وجرائم الحرب في غزة بعمليات قتل المدنيين وخاصة الأطفال والنساء وتجويعهم، وخلال هذه الزيارة المرتقبة كان من المنتظر أن يفاجئ ترامب العالم أجمع بمفاجأة سارة، عن هذه المفاجأة الغامضة تحدثت وسائل إعلام مختلفة عن مصادر مطلعة أن المفاجأة ستكون الإعلان عن اعتراف الإدارة الأمريكية بالدولة الفلسطينية، لكن المفاجأة التي حبس العالم أنفاسه لسماعها، وارتجفت قلوب الصهاينة هلعا لسماعها لم تحدث، بل المفاجأة كانت، التي لا يمكن وصفها بمفاجأة، برفع العقوبات عن سوريا ولقاء الرئيس السوري أحمد الشرع بالرئيس دونالد ترامب، كون هذه العقوبات «عقوبات قانون قيصر» كانت قد قررتها الإدارة الأمريكية السابقة لتفرض على النظام السوري البائد لارتكابه مجازر مروعة بالشعب السوري، ومنها القتل بالكيماوي، وتحت التعذيب والتي أفشى سرها فريد المذهان المكنى بـ«قيصر» والإدارة الحالية التي أسقطت هذا النظام المجرم ليس لها ناقة أو جمل في هذه الجرائم، وعليه فإن رفعها كان منتظرا وبدون شروط، لكن الإدارة الأمريكية استغلتها لتضع شروطها ومنها التطبيع مع دولة الاحتلال، وقد قدم الرئيس أحمد الشرع هدية ببناء برج ترامب في قلب العاصمة السورية دمشق التي تعهدت إمارة أبو ظبي ببنائه ليكون أعلى ناطحة سحاب في العالم مع كتابة إسم ترامب بماء الذهب فوقه.

وهذه «المفاجأة» إذا اعتبرناها كذلك فقد تم التحضير لها ودعمها من قبل ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الذي أيضا عمل على تنظيم مؤتمر خليجي ـ أمريكي حيث سمع ترامب بأذنيه ورأى بعينيه أن كل قادة الخليج، وبصوت واحد طالبوا بوقف الحرب على غزة وإقامة دولة فلسطينية، وانتظر الجميع أن «يبق ترامب البحصة» ويعلن اعترافه بفلسطين لكنه لم يفعل، وترك العرب في ترقب حذر. وتوقع البعض أن «المفاجأة» الكبرى ربما سيطلقها ترامب في العاصمة القطرية الدوحة التي أخذت على عاتقها عبئا كبيرا في المفاوضات المكوكية المضنية لتحرير رهائن الاحتلال، ووقف الحرب الهمجية على غزة، لكنه لم يعلنها كما كان متوقعا، وربما وعد بها الأمير القطري تميم بن حمد سرا ولم يف بوعده في اللحظة الأخيرة. وفي محطة رحلته الثالثة في أبو ظبي حافظ ترامب على موقفه بعدم الإعلان المتوقع، وتبين فقط أن زيارته هي زيارة مال وأعمال وصفقات تجارية بأرقام فلكية.

هكذا اندرج بيان الجامعة الأخير أيضا في خانة «الكلامولوجيا» في الوقت الذي لا تزال عربات جدعون تدوس أجساد الأطفال الغزاويين خاويي البطون

وكما جرت العادة خرج الفلسطينيون من «المولد بلا حمص» واستدراكا لفضيحة صمت الغرب بمجمله أمام العالم إزاء ما يجري في غزة من قتل وتدمير وتجويع، وحرصه الحفاظ على صورة مبادئه التي يبرزها على واجهته القانونية والثقافية والسياسية أمام العالم في كل مناسبة وغير مناسبة، حاول كسر صمته عن الإبادة الجماعية في غزة قصفا وتجويعا وتعطيشا، وفي الضفة قتلا وتدميرا واحتلالا، فبدأت بعض الدول كفرنسا وهولاندا وإسبانيا وإيرلندا وأستراليا برفع أصواتها الخجولة بالمطالبة بوقف الحرب وإدخال المساعدات للشعب المتضور جوعا، فلا يمكن أن تدان روسيا على احتلال أوكرانيا ويرين الصمت عن احتلال الأراضي الفلسطينية وإبادة شعبها. ولكن إلى الآن لم يتخذ أي قرار أوروبي بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، أو إجراء عملي ضاغط يجعل حكومة الاحتلال ترضخ للتهديدات الأوروبية التي ظلت في إطار دبلوماسية «الكلامولوجيا» بانتظار أن ينهي نتنياهو مغامرته الشنعاء اللاإنسانية المصر على الاستمرار بها دون حسيب أو رقيب بإطلاق «عربات جدعون».

لم ينته مؤتمر دول الخليج وموسم حصاد ترامب الترليوني حتى انعقدت القمة العربية في بغداد في دورتها الرابعة والثلاثين، ويا لها من قمة، ففي هذا الوقت العصيب جدا من تاريخ هذه الأمة والتهديدات الحقيقية التي تتربص بها (حرب غزة الإبادة الجماعية وخطر الاحتلال في الضفة وغزة، ولبنان، وسوريا، وعلى مدى آخر لمعظم دول الشرق الأوسط، الخلافات العراقية العراقية وخطر الفتنة والتقسيم، الفتنة الطائفية في سوريا وخطر التقسيم، الحرب السودانية وخطر التقسيم، الحرب اليمنية وخطر التقسيم، الحرب الليبية وخطر التقسيم، خطر المواجهة الجزائرية المغربية بسبب الصحراء الغربية..عدا عن كل الأزمات الاقتصادية والتعليمية وسواها) فقد قاطع هذه القمة 17 زعيما من زعماء العرب، وكسابقاتها من قمم اقتصرت قمة بغداد على بيان ختامي تضمن ككل البيانات الصادرة لم ينفذ منه بند واحد، واتخذ من الأدراج التي يعلوها غبار كثير مثواه الأخير، ففي هذا البيان يمكن أن نقرأ بتلخيص شديد: «إيمانا بمبادئ ميثاق الجامعة العربية.. نُؤكد على مركزية القضية الفلسطينية بكونها قضية الأمة وعصب الاستقرار في المنطقة، ودعمنا المطلق لحقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف، بما فيها حقه في الحرية وتقرير المصير وإقامة دولة فلسطين المستقلة كاملة السيادة، وحق العودة والتعويض للاجئين والمغتربين الفلسطينيين، وندين جميع الإجراءات والممارسات اللاشرعية من قبل إسرائيل، بصفتها القوة القائمة بالاحتلال، والتي تستهدف الشعب الفلسطيني الشقيق وتحرمه من حقه في الحرية والحياة والكرامة الإنسانية التي كفلتها الشرائع السماوية والقوانين الدولية، نُطالب بوقف فوري للحرب في غزة ووقف جميع الأعمال العدائية التي تزيد من معاناة المدنيين الأبرياء.». ومناشدات أخرى بإدخال المساعدات والتبرع لرعاية أطفال غزة وسواها.. وكل ذلك «إيمانًا بأهميَّة العمل العربي المُشترك لتحقيقها» ولسخرية دولة الاحتلال من العرب وقمتهم أطلق بنيامين نتنياهو عملية «عربات جدعون « لإكمال حصد أرواح الغزيين بوتيرة أرفع، واحتلال أرضهم وطردهم منها، وهكذا اندرج بيان الجامعة الأخير أيضا في خانة «الكلامولوجيا» في الوقت الذي لا تزال عربات جدعون تدوس أجساد الأطفال الغزاويين خاويي البطون، كما فعلت بعائلة الطبيبة آلاء النجارالتي فقدت تسعة من أبنائها وإصابة العاشر وزوجها بجروح خطيرة، وتدمر المخابز والمشافي، ولا صوت يعلو في العواصم العربية التي عقدت بالأمس قمتها في بغداد على صوت الصمت.

كاتب سوري