اغتيال القصر العدلي في دمشق

جيهان خلف
الثلاثاء, 21 أكتوبر - 2025
القصر العدلي في قلب العاصمة دمشق اثر تاريخي  ومعلم سياحي
القصر العدلي في قلب العاصمة دمشق اثر تاريخي ومعلم سياحي

 يُعَدّ القصرُ العدليُّ في دمشق من أبرز الصروح القضائية في سوريا، كما أنه أحد أقدم المباني التي شُيِّدت في العهد العثماني ببلاد الشام في مطلع القرن السادس عشر، عام 1516م. غير أن البناء الحالي للقصر يعود إلى عام 1911م، في عهد السلطان العثماني عبد الحميد الثاني. ويضمّ مبنى القصر العدلي العديد من المحاكم التابعة للسلطة القضائية السورية.

الموقع والتاريخ:

كان موقع المبنى في السابق مشغولًا بقصرٍ مملوكيٍّ حتى عام 1850م، حين أزاله العثمانيون وأقاموا مكانه ثكنةً عسكرية.

القصر العدلي في دمشق

خلال فترة الانتداب الفرنسي، استُخدمت الثكنة العسكرية كمقرٍّ رئيسي للمفوّض السامي الفرنسي.

وفي عام 1945، وبعد أن دمّر حريقٌ كبير أجزاءً من المبنى آنذاك، أُعيد تجديد البناء ليأخذ شكله الحالي.

بُني القصر العدلي القديم في دمشق في خمسينيات القرن الماضي، وشُيّد في موقع دار السعادة القديمة، التي تغيّر اسمها في مطلع عام 1573م إلى السراي. وقد كانت السراي دارًا للحكومة، إذ مثّلت المقرّ الرسمي والفعلي لوالي الشام العثماني. وكان أول من اتخذها مقرًّا لسلطته الوالي شعبان أحمد شمسي باشا (1554–1561م)، ثم الوالي عيسى باشا، فالوالي محمد باشا العظم، وأخيرًا الوالي حسن إبراهيم باشا، وهو آخر الولاة العثمانيين الذين اتخذوا السراي مقرًّا لهم.

بُنيت دار السعادة على هيئة قصر جميل في مطلع القرن السادس عشر، ثم تبدّل اسم المحلة تدريجيًا إلى الدرويشية بعد بناء جامع درويش باشا في الموقع نفسه (حيث يقع القصر العدلي اليوم). وظلت الدار قائمة في محلة الدرويشية إلى أن احترقت.

دار السعادة والسراي الحكومي

في عام 1573م تغيّر اسم دار السعادة إلى سراي الحكومة. ويُذكر أن هذه الدار تختلف عن دار السعادة المملوكية الواقعة قرب باب النصر بجانب سوق الحميدية.

كانت سراي الحكومة فعليًا دارًا للحكم، إذ كانت مقرًّا رسميًا لجلوس الوالي العثماني، كما ورد في التقارير الإدارية المرسلة إلى الباب العالي في الأستانة.

أول من اتخذها مقرًا للسلطة كان شعبان أحمد شمسي باشا، وآخرهم حسن إبراهيم باشا. كما استقرّ فيها إبراهيم باشا بن محمد علي عام 1831م لمدة ست سنوات، وأطلق عليها اسم السرايا العسكرية. وعند انسحابه، دمّر القسم الجنوبي منها (الحرملك) وأحرقه كي لا تقع وثائق الجيش المصري بيد الدولة العثمانية.

زيارة الإمبراطور الألماني

زار الإمبراطور الألماني ويليام الثاني وزوجته دمشق عام 1898م، وأقاما في القصر العدلي، فيما نزل أفراد حاشيته في فندق فيكتوريا. مكث الإمبراطور في الدار يومين لاستقبال قادة الجيش العثماني، ثم غادر إلى القدس الشريف. وأُعجب الدمشقيون به وأطلقوا عليه لقب الحاج غليوم.

القصر في عهد الانتداب الفرنسي

بعد دخول جيش الانتداب الفرنسي إلى دمشق عام 1920م، صار القصر مقرًّا لدوائر المندوب السامي الفرنسي، وسُمّي المندوبية نسبة إلى دار الانتداب.

وفي عام 1929م، شغلت بعض أجزائه دوائر النفوس الشامية ودائرة الأمن العام والجوازات.

الطراز المعماري

شُيّد القصر العدلي على الطراز الإسلامي، ويتكوّن من ثلاث واجهات. الواجهة الرئيسية بُنيت على طراز القصور الفخمة على هيئة محراب كبير، وتضم نوافذ قوسية مدببة تقوم على أعمدة، مزدانة بخشبيات وزجاج ملوّن، إضافة إلى مقرنصاتٍ إسلاميةٍ تزيّن سطح المدخل الرئيسي.

التجديدات المتكررة

أُعيد تجديد القصر مراتٍ عديدة. فبعد انسحاب الجيش المصري، أعادت الدولة العثمانية بناء الأجزاء المتضررة وزرعت الحدائق حوله، وأقامت له بوابة كبيرة من الجهة الشمالية.

وفي أواخر القرن التاسع عشر، جُدّد القصر مرة أخرى، فصُمّم الطابق الأرضي على شكل أقواس مرتفعة لتسهيل مرور العربات التي تجرها الخيول، بينما خُصّص الطابق العلوي لمكاتب الحكومة وضباط الجيش، وجُعل سقفه من القرميد الأحمر.

الحريق وإعادة الإعمار

في عام 1945م، شبّ حريق كبير في المندوبية، طال معظم غرف القصر وجدرانه، وأدّى إلى انهيار أجزاء واسعة منه. فقرّرت حكومة الرئيس شكري القوتلي هدم المبنى وبناء قصر جديد على جزء من أرضه الواسعة.

وفي الفترة بين 1948 و1952م، أُنجز بناء القصر العدلي الجديد الواقع بين شارع جمال باشا وحي القنوات، ليضم دوائر العدل الشرعية والمدنية.

مكتبة القصر العدلي

تُعدّ مكتبة القصر العدلي مركزًا قانونيًا وثقافيًا مهمًا، إذ تضم ثروة من المراجع القانونية والتاريخية، وتشكّل موردًا أساسيًا للباحثين والقضاة والمحامين والطلاب. وتُسهم في توثيق التراث القانوني السوري عبر جمع القوانين والأنظمة والأطروحات والأبحاث والمجلات المتخصصة.

أعمال الترميم الحديثة

أعلنت وزارة العدل السورية في آب عام 2023 عن بدء مشروع ترميم القصر العدلي بدمشق ضمن خطة لإصلاح الأبنية الحكومية، مؤكدة أن ورش وزارة الإسكان ستباشر العمل قريبًا.


وأوضحت الوزارة أن سبب الترميم هو تدهور المبنى نتيجة الإهمال وطول الاستخدام، مما استدعى وضع خطة شاملة لإصلاحه.


غير أن بعض المراقبين لاحظوا تجاوزات في أعمال الترميم، مثل تدمير قاعة المحاكمات الرئيسية التي شهدت محاكمة الجاسوس إيلي كوهين، وسوء استخدام الأخشاب القديمة في النوافذ، فضلاً عن تخزين كتب المكتبة التاريخية، التي يعود بعضها إلى أكثر من مئة عام، في أكياس داخل قاعة المحامين، رغم قيمتها الكبيرة كمصدر تراثي ومعرفي.


القصر العدلي اليوم

يُعدّ القصر العدلي أحد أبرز معالم دمشق، حيث شهدت أروقته آلاف المرافعات والأحكام التي شكّلت جزءًا من تاريخ العدالة السورية.

فعند مدخله، يقف كتّاب العرائض يقدمون خدماتهم للناس، لتظل صورة القصر العدلي حيّة كرمزٍ للقانون والقضاء في قلب العاصمة دمشق.