المنهجية التي استخدمتها رويترز للتحقق من مخطط في عهد الأسد لنقل مقبرة جماعية

الثلاثاء, 21 أكتوبر - 2025
المقابر الجماعية في الصحراء السورية
المقابر الجماعية في الصحراء السورية


لكل رقعة من الأرض بصمة وسر، البصمة هي مزيجها الفريد من التأثيرات الجيولوجية والمواد العضوية التي تُشكل أنماطا لونية مميزة.. أما السر فهو ما يكمن في الأعماق.
بالتعاون مع فريق من خبراء علم التربة الجنائي، استخدم تحقيق أجرته رويترز تقنيات مقارنة التربة لتأكيد النتيجة الرئيسية التي خلصنا إليها‭‭‭‭‬‬‬‬ وهي أن حكومة بشار الأسد نقلت عشرات الآلاف من الجثث من مقبرة جماعية في منطقة القطيفة بريف دمشق إلى موقع سري بالصحراء السورية.
استند التحليل إلى آلاف الصور التي التقطتها طائرات مسيرة وتم تجميعها معا لإنشاء صورتين مركبتين عاليتي الدقة.
كشفت رويترز لأول مرة الأسبوع الماضي عن نقل الجثث ووجود المقبرة الجماعية الجديدة في صحراء الضمير. ولا يزال عدد المدفونين هناك مجهولا. ويمكن أن تقدم عينات التربة المأخوذة من الموقعين تأكيدا علميا على نقل الجثث من القطيفة إلى الضمير. كما أن استخراج الجثث سيكشف عن عددها.
وقالت لورنا داوسون، رئيسة مركز علم التربة الجنائي في معهد جيمس هاتون في اسكتلندا، والتي ساعدت في تصميم المنهجية التي اتبعتها رويترز في تحقيقها، إن مقارنة التربة “هي أحد خيوط الأدلة”.
وأضافت “يجب أن يقترن ذلك بالمعلومات والبيانات الأخرى، ومعلومات المخابرات وشهادات الشهود. لأنه كما هو الحال في جميع التحقيقات، فهي ليست مجرد معلومة واحدة أو مجموعة واحدة من البيانات”.
وبينما يدعم تحليل صور الطائرة المسيرة نتائج تحقيق رويترز، اكتشف الصحفيون لأول مرة موقع المقبرة الجماعية في صحراء الضمير بعد التحدث مع أكثر من عشرة أشخاص شاركوا بشكل مباشر في إنشائها. وكان من بين الشهود سائقون وجنود وفنيو إصلاح سيارات وحفارو قبور تذكروا جميعا سنوات من الرحلات ذهابا وإيابا بين المقبرة الجماعية الأصلية بالقرب من القطيفة وموقع الضمير.
كما راجع فريق إعداد التقرير وثائق موقعة أو مختومة من ضباط سوريين شاركوا في عملية نقل الجثث. وحللوا أكثر من 500 من صور الأقمار الصناعية كانت أساسية في تحديد حجم موقع الدفن الجماعي في الضمير ووتيرة إفراغ القبور في القطيفة بالتزامن مع حفر قبور جديدة في الضمير.
جرت عملية نقل الجثث، التي أطلق عليها منفذوها اسم عملية “نقل التربة”، وكانت تهدف إلى إخفاء الجرائم المرتكبة خلال حكم الأسد، في الفترة من فبراير شباط 2019 إلى 2021.
وللتحقق من صحة روايات الشهود وتحليل صور الأقمار الصناعية، برز سؤال: هل هناك وسيلة علمية يمكن استخدامها لإثبات الصلة بين المقبرتين الجماعيتين دون العبث بموقع يمكن اعتباره في المستقبل مسرح جريمة؟
ظهر أول خندق من بين 34 خندقا على الأقل في موقع صحراء الضمير في صور الأقمار الصناعية غير الواضحة في أوائل فبراير شباط 2019. ووفقا لثمانية أشخاص شاركوا في العملية، كان ذلك قبل وقت قصير من بدء نقل الجثث من المقبرة الجماعية في القطيفة.
ومع امتلاء خنادق الدفن في الضمير، أظهرت صور الأقمار الصناعية التي تم التقاطها في ذلك الوقت تغيرات في لون التربة المحيطة بكل قبر فيما يبدو. لكن الظروف الجوية تؤثر على كيفية التقاط الأقمار الصناعية للألوان، كما أن الصور التي توفرها حتى أكثر الشركات التجارية تطورا تفتقر إلى الدقة اللازمة لإجراء فحص التربة عن قرب.
وهنا جاء دور العلماء.
وضع بنجامين روك، وهو جيولوجي جنائي متخصص في استخدام الطائرات المسيرة للعثور على مواقع الدفن السرية، خطة تحليق لرويترز فوق موقعي المقبرتين، ووجه مشغل طائرة مسيرة ماهر بالتحليق في خطوط مستقيمة متوازية كالشبكة، ذهابا وإيابا، على ارتفاع 60 مترا، مع التقاط الصور تلقائيا كل ثانيتين.
وبعد ساعة و31 دقيقة و2629 صورة، بما في ذلك فترة توقف قصيرة لتغيير البطاريات، تم توثيق موقع الضمير. وبلغ إجمالي صور القطيفة، حيث كرر مشغل الطائرة المسيرة نفس خطة التحليق، 2236 صورة.
استغرق تحميل الملفات أياما بسبب ضعف شبكة الإنترنت في سوريا. وعندما تم ذلك أخيرا، بدت الألوان والمعالم التي كانت ضبابية في صور الأقمار الصناعية أكثر وضوحا في صور الطائرة المسيرة عالية الدقة. وكشفت الصور عن آثار جنازير الجرافات وتفاوت مستويات التربة وتفاصيل دقيقة لبقع من التربة مما مكن من إجراء مقارنة مباشرة بين ألوان التربة في كل من القطيفة والضمير.
وبموجب البروتوكولات الدولية المعتمدة لحماية المقابر الجماعية والتحقيق فيها، تعتبر التقنيات التي لا تشمل تدخلا مباشرا في الموقع هي المعيار الأمثل أثناء مرحلة الاكتشاف والتوثيق الأولي للموقع، بما في ذلك الصور الجوية وصور الأقمار الصناعية وإفادات الشهود واستخدام الوثائق.
واستُخدمت الصور الجوية وصور الأقمار الصناعية لأول مرة لتحديد مواقع المقابر الجماعية علنا في عام 1995، بعد إعدام نحو 8000 رجل وفتى مسلم في سربرنيتشا على يد صرب البوسنة. وعرضت مادلين أولبرايت، السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة حينئذ، على مجلس الأمن الدولي صورا لمواقع الدفن.
وعلى غرار ما حدث في موقع الضمير، نقلت قوات صرب البوسنة آلاف الجثث إلى مواقع جديدة لإخفائها. وعندما بدأ المحققون في استخراج الجثث في سربرنيتشا بعد الحرب، أخذ العلماء عينات من التربة من القبور الأصلية والجديدة لاختبار مدى تطابقها. ولتجنب العبث بمقبرة الضمير، لم تأخذ رويترز عينات من التربة.
وراجع إيان هانسون، عالم الآثار الجنائية في جامعة بورنموث البريطانية والذي عمل ضمن الفريق في سربرنيتشا، منهجية هذا التقرير بناء على طلب من رويترز. وقال هانسون إن تحليل التسلسل الزمني لصور الأقمار الصناعية، وهي الطريقة التي استخدمتها رويترز، يعد وسيلة فعالة لتقييم توقيت العمل في المقبرتين الجماعيتين. لكنه أشار إلى أن تحليل عينات التربة من الموقعين هو الطريقة العلمية الوحيدة لتأكيد الصلة بينهما.
ونظرا لأن المحققين في سربرنيتشا تمكنوا من أخذ عينات من التربة وكانت مواقع المقابر الجماعية متباينة في خصائص الجيولوجيا والتربة والنباتات، فقد تمكنوا من إثبات أن الجثث نُقلت من مواقع أخرى.
لكن تحليل التربة لا يمكنه وحده أن يكشف كل شيء. استغرق استخراج الجثث سنوات من العمل المضني للكشف عن حجم المدفونين تحت السطح، ولا يزال التعرف على هوية أصحاب الرفات مستمرا حتى يومنا هذا، بعد 30 عاما على عمليات القتل.
كان العمل في سربرنيتشا أول استخدام منهجي لعلم التربة الجنائي في تحقيقات جرائم الحرب.
‭‭‭ ‬‬‬وقالت داوسون “أي علامات على الأرض يمكن رؤيتها من الجو، يمكن لجغرافيا تلك العلامات أن تبدأ في سرد قصة ما حدث”. وبفضل إسهامات داوسون الرائدة في علم التربة الجنائي أصبحت شاهدة خبيرة في قضايا القتل الكبرى، بما في ذلك المساعدة في حل واحدة من أقدم القضايا الغامضة في اسكتلندا والتي كانت تعرف باسم (جرائم القتل في نهاية العالم) نسبة إلى اسم الحانة التي غادرها الضحيتان قبل مقتلهما في عام 1977.
تضمنت خطة روك للطيران تحليق الطائرة المسيرة في خطوط مستقيمة بينها حوالي 20 مترا ذهابا وإيابا عبر كل موقع. وضمن ذلك أن تلتقط الطائرة المسيرة آلاف الصور المتداخلة، مما سمح لبرامج المسح التصويري بربطها معا في صور مركبة أكثر وضوحا بعشر مرات من لقطات الأقمار الصناعية.
استخدم روك صور الطائرة المسيرة لمقارنة ألوان التربة من كلا الموقعين باستخدام نظام مانسيل، وهو تصنيف معياري ينظم الألوان حسب درجة اللون وشدته (باهت أو قوي) ومدى سطوعه (غامق أو فاتح)، ويستخدم في الفن والصناعة والعلم الجنائية.
وفي القطيفة، موقع المقبرة الجماعية الأصلية، التقطت الطائرات المسيرة تفاصيل من فجوات فارغة في الأرض تم حفرها في وقت ما بعد سقوط الأسد، سواء داخل منطقة المقبرة الجماعية أو بالقرب منها، وكشفت هذه الحفر عن طبقات باللونين الأحمر والأصفر من النوع الذي عادة ما يظهر عند استخراج رفات بشرية، وفقا إلى ما خلص له فريق روك.
وفي الضمير، أظهرت رحلات الطائرة المسيرة أن التربة غير المستوية كانت أكثر احمرارا وقتامة مقارنة بالمناطق القريبة المستوية وهو نوع التغيير المتوقع إذا أضيفت تربة القطيفة إلى التربة الرمادية في الضمير.
وقال روك إن العوامل الأخرى التي من شأنها أن تجعل التربة داكنة، بما في ذلك نسبة الرطوبة أو التركيب المعدني أو المواد الكيميائية الناجمة عن تحلل الجثث، تشير أيضا إلى وجود مزيج من التربة القديمة والجديدة.
ورغم أن تحليل الألوان الذي أجراه العلماء يشير إلى أن التربة كانت مختلطة، لا تزال هناك أسرار كامنة تحت السطح. فمن غير الممكن تأكيد وجود تربة القطيفة في موقع الضمير إلا من خلال أخذ عينات. ولا يمكن معرفة عدد القتلى المدفونين في صحراء الضمير وهوياتهم سوى باستخراج الجثث وفحص الحمض النووي.