صحيفة ألمانية: بشار الأسد في المنفى الذهبي: من “جزار الشعب” إلى مدمن ألعاب فيديو

السبت, 11 أكتوبر - 2025
المخلوع بشار الأسد
المخلوع بشار الأسد


كتبت صحيفة "دي تسايت" الألمانية مقالا تصف فيه حياة المخلوع بشار الأسد الفار إلى موسكو تقول فيه
عن “القدس العربي”: بعد السقوط المفاجئ لنظامه في ديسمبر/كانون الأول 2024، يعيش الرئيس السوري السابق بشار الأسد حياة غامضة خلف جدران الحماية الروسية في موسكو. بعيدًا عن ضجيج السياسة والحروب التي شكّلت ملامح حكمه لأكثر من عقدين، يقضي الأسد أيامه في عزلة شبه تامة داخل مجمع فخم يخضع لإشراف أمني مشدد، بحسب تقرير حصري لصحيفة “دي تسايت” الألمانية. وبينما تتحدث بعض التسريبات عن تدهور حالته الصحية ومعاناته من عزلة نفسية قاسية، تؤكد مصادر روسية أنه لا يزال تحت “رعاية خاصة” بقرار مباشر من الكرملين.
يقضي الأسد أيامه في عزلة شبه تامة داخل مجمع فخم في موسكو يخضع لإشراف أمني مشدد
في قلب حي “موسكو سيتي”، ذلك الحي التجاري الذي يشبه مدينة من المستقبل المبنية على أحلام الثراء والقوة، يقف برج زجاجي شاهق يرتفع إلى 300 متر في السماء. أمامه يشعر الزائر بالضآلة، كأنه حشرة أمام عملاق من الزجاج والصلب. هنا، يختبئ الرجل الذي أمر بقصف شعبه: بشار الأسد، الديكتاتور السوري الذي اشتهر بلقب “الجزار”. ليس وحده، بل مع أفراد عائلته الذين يسيطرون على نحو 20 شقة فاخرة في هذا البرج، يعيشون حياة ملكية سرية بعيدا عن أعين العالم.
هكذا تصف صحيفة “دي تسايت” هذا المشهد الغامض الذي يجمع بين الفخامة الروسية ودماء السوريين. لم يكن الوصول إلى هذا البرج سهلاً. في الردهة الرئيسية، الممتدة على ارتفاع 20 مترا والمغمورة بالضوء الطبيعي، تنتظر ناتاشا – وكيلة عقارات ترفض الكشف عن اسمها الحقيقي – لتقود فريق الصحيفة عبر شقق مشابهة لتلك التي تملكها عائلة الأسد. تقول ناتاشا، وهي تهمس بإعجاب: “في هذه الأبراج يعيش كثير من السياسيين والأجانب”. هكذا يبدأ الغوص في حياة الديكتاتور الهارب، التي تبدو كقصة من رواية جاسوسية مليئة بالأسرار والشائعات، لكنها تكشف واقعا مريرا لرجل حكم بلاده بالحديد والنار.
بشار الأسد، طبيب العيون شاحب الوجه، ورث من والده حافظ نظاما دمويا حكم الشرق الأوسط بالرعب لثلاثة عقود. تولى الحكم عام 2000، وسرعان ما حوّل سوريا إلى ساحة للقمع. وعندما ثار الشعب السوري في إطار الربيع العربي عام 2011، ردّ الأسد بعنف غير مسبوق: حرب أهلية أودت بحياة أكثر من نصف مليون شخص، استخدم فيها الغازات السامة ضد المدنيين، وقصف المستشفيات والمدارس.
اتهمته الأمم المتحدة بارتكاب جرائم حرب، لكن ذلك لم يمنعه من التمسك بالسلطة حتى اللحظة الأخيرة. واليوم يطارده القانون: ففي 27 سبتمبر/أيلول 2025، أصدرت وزارة العدل السورية مذكرة توقيف بحقه بتهم “القتل العمد والتعذيب وإثارة الحرب الأهلية”. تضمنت المذكرة أوصافا دقيقة له: الطول 1.89 متر، الوجه بيضاوي، الجبهة بارزة، الأنف طويل، العينان زرقاوان، الشعر بني. ورغم هذه التفاصيل التي تجعله يبدو كأي متهم عادي، فإن الواقع أكثر تعقيدا: فروسيا، التي تؤويه، ترفض تسليمه.
يعتمد الأسد كليا اليوم على حاميه فلاديمير بوتين، الذي دعم نظامه عسكريا خلال الحرب السورية. لكن عندما اقتربت قوات المعارضة بقيادة الرئيس المؤقت الحالي أحمد الشرع من دمشق في ديسمبر 2024، سمح بوتين للأسد بالفرار إلى موسكو “لأسباب إنسانية”، كما أعلن الكرملين. كانت تلك رسالة واضحة: المستبدون يحمون بعضهم، وروسيا ملاذ آمن لمن يسقطون، شرط التزامهم الصمت.
في المقابل، فرض بوتين شروطا صارمة: لا أنشطة سياسية، ولا ظهور إعلامي. وكما كشف السفير الروسي في بغداد إلبريس كوتراشيف في مقابلة مع وسيلة إعلام عراقية في أبريل الماضي، فإن الالتزام بهذه الشروط يضمن سلامة الأسد، وتسليمه “غير وارد”. هكذا، يضمن بوتين سيطرته على السرد التاريخي.
يعيش الأسد حياة مرفهة إلى حد كبير، لكنها مقيدة بالسرية والحماية الأمنية، ما يجعلها أقرب إلى “سجن ذهبي” منها إلى حياة حرة
حياة الأسد اليومية
تؤكد صحيفة “دي تسايت” أن الأسد يعيش حياة مرفهة إلى حد كبير، لكنها مقيدة بالسرية والحماية الأمنية، ما يجعلها أقرب إلى “سجن ذهبي” منها إلى حياة حرة. يقيم مع عائلته في برج زجاجي فاخر في حي موسكو سيتي، حيث يمتلكون نحو 20 شقة فخمة اشتروها منذ عام 2013 عبر شركات وهمية لإخفاء الصفقات، بينها ثلاث شقق متصلة يقيم فيها الأسد نفسه.
تتميز الشقق بترف استثنائي: حمامات من رخام “كارارا” الإيطالي، وأحواض سيراميكية ضخمة مسخنة، ونوافذ تمتد لأربعة أمتار تطل على أفق موسكو، حيث يمكن للأسد مشاهدة الألعاب النارية في “يوم النصر” الروسي (9 مايو) برفقة كأس شمبانيا، بحسب رواية ناتاشا. كما تمتلك العائلة فيلا منعزلة خارج المدينة بإشراف شركة أمن خاصة ممولة من الحكومة الروسية، تضمن رفاهية مادية مدعومة بأموال نُقلت نقدا عبر مطار فنوكوفو.
يتحرك الأسد بحرية محدودة داخل البرج، ولا يتعدى نشاطه أحيانا زيارة مركز التسوق في الطابق السفلي
لكن هذه الرفاهية مشروطة: الصمت التام عن الماضي، وحظر أي نشاط سياسي أو إعلامي، تحت رقابة جهاز الأمن الروسي (FSB). يتحرك الأسد بحرية محدودة داخل البرج، ولا يتعدى نشاطه أحيانًا زيارة مركز التسوق في الطابق السفلي، بينما يُمنع من السفر أو الظهور العلني.
أما روتينه اليومي، فيدور في عزلة شبه تامة: يقضي ساعات طويلة في ألعاب الفيديو عبر الإنترنت، هاربا من واقعه، كما يؤكد مصدر مقرب من دائرته. يقول المصدر، الملقب بـ”إتش”، إن الأسد “شخص خجول ومذعور تحول إلى عنيف، لكنه اليوم يعيش بلا هدف، مكتفيا بالأموال التي سرقها”.
زوجته أسماء تعالج من اللوكيميا الحادة في موسكو، وأبناؤه (حافظ، زين، كريم) يعيشون معه في الشقق نفسها، بينما يقضي شقيقه ماهر وقته في فنادق فاخرة مثل “فور سيزونز”، بين الشرب والشيشة.
شائعات التسميم: محاولة اغتيال أم إحراج للكرملين؟
في 20 سبتمبر 2025، نُقل الأسد إلى مستشفى خاص قرب موسكو بعد تعرضه لتسمم في فيلته المحروسة بشدة. قضى تسعة أيام في العناية المركزة قبل خروجه في 29 سبتمبر بحالة مستقرة مع آثار سم في جسده، وفقًا للمرصد السوري لحقوق الإنسان. سُمح فقط لأخيه ماهر وسكرتيره السابق بزيارته وسط تشديد أمني.
ويُعتقد أن منفذي الهجوم عرب غير مرتبطين بالحكومة السورية الجديدة أو الولايات المتحدة، ربما من ضحايا نظامه، هدفهم “قتله أو إحراج الروس”، بحسب مصدر لـ”نيويورك بوست”. ليست هذه المرة الأولى، إذ انتشرت شائعات مشابهة في يناير 2025 عبر قناة “جنرال إس في آر” على تليغرام، لكنها نُفيت لاحقًا لعدم وجود أدلة مستقلة.
الصمت الروسي يعزز الشكوك، فيما لا تزال التحقيقات جارية دون تحديد كيفية التعرض للسم.
تسببت الحرب الأهلية السورية بمقتل أكثر من 500 ألف شخص، وسط اتهامات بارتكاب جرائم حرب، بما في ذلك استخدام غاز السارين ضد المدنيين. ويطالب الرئيس المؤقت أحمد الشرع بمحاكمته دوليًا، لكن روسيا ترفض، محولة منفى الأسد إلى “سجن ذهبي” يمنع كشف تورطها في الجرائم السورية.
فماذا لو تحدث الأسد عن هجمات الغاز أو القصف الروسي على الخان الأحمر أو تدمير المستشفيات؟
الجواب واضح: الأسد ملتزم بقسم الصمت، الذي يشمل عائلته بأكملها، مقابل الحماية. هكذا، يحوّل بوتين منفى الديكتاتور إلى أداة للسيطرة على الذاكرة السورية، ليصبح الدم السوري سرا روسيًا آخر.