الهندسة الوراثية وتعديل الجينات: أين تنتهي الأخلاق ويبدأ التلاعب؟

د. تمام كيلاني
الثلاثاء, 15 يوليو - 2025


في زمنٍ تتسارع فيه الاكتشافات العلمية بشكل غير مسبوق، تتقاطع حدود الخيال العلمي مع الواقع اليومي. ومن بين هذه الاكتشافات، تبرز الهندسة الوراثية كتقنية مذهلة، تمنح الإنسان قدرة غير مسبوقة على تعديل الصفات الوراثية للكائنات الحية، وربما إعادة تعريف ما يعنيه أن نكون “بشرًا”.

فهل يقوم الإنسان بتعديل مصيره لمكافحة المرض والمعاناة؟ أم أنه يفتح أبوابًا خطرة للتلاعب بالحياة ذاتها؟ هنا تتقاطع الإنجازات العلمية مع الأسئلة الأخلاقية والروحية العميقة: أين تنتهي حدود العلم، وأين تبدأ مسؤولية الإنسان؟

ما هي الهندسة الوراثية؟

الهندسة الوراثية هي تقنية علمية تُستخدم لتعديل المادة الوراثية (DNA) في الكائنات الحية، سواء أكانت نباتات، حيوانات، أو حتى بشر. تتيح هذه التقنية للعلماء حذف جينات غير مرغوبة أو إدخال جينات تمنح صفات مرغوبة مثل مقاومة الأمراض أو تحسين الأداء البيولوجي.

ومن أشهر أدوات هذه التقنية: CRISPR-Cas9، التي أحدثت ثورة بفضل دقتها وكفاءتها العالية، خاصة في مجالات الطب والزراعة.

لا يمكن إنكار أن الهندسة الوراثية قدمت للبشرية فوائد هائلة، نذكر منها:

 علاج الأمراض الوراثية الخطيرة مثل التليف الكيسي ومرض هنتنغتون.

 تطوير محاصيل زراعية مقاومة للآفات والجفاف، ما يُسهم في تحقيق الأمن الغذائي.

 الوقاية من انتقال الأمراض الوراثية للأجيال القادمة.

تخيل عالماً يمكن فيه القضاء على الأمراض المستعصية قبل أن يُولد الإنسان! هذا ليس خيالًا مستقبليًا، بل واقع نقترب منه أكثر فأكثر.

رغم هذه الإنجازات، فإن الهندسة الوراثية تطرح تساؤلات أخلاقية لا يمكن تجاهلها:

 هل يجوز للإنسان “تصميم” أطفال حسب الطلب؟ (اللون، الطول، الذكاء…)

 هل سنخلق طبقة بشرية “محسّنة” جينيًا مقابل طبقات أخرى طبيعية؟

 هل يؤدي هذا إلى تمييز جيني وتهديد للتنوع البشري؟

 أين الحد الفاصل بين العلاج والتجميل؟ وبين الضرورة والترف؟

في هذا السياق، نستحضر مقولة الجراح الفييناوي الدكتور ثيودور بيلروث قبل أكثر من 159 عاما حين قال:

“قبل أن أجري أي عملية جراحية، أسأل نفسي: هل كنت سأجريها لوالدي؟”

هذا المعيار الإنساني الصادق يمكن أن يكون دليلًا أخلاقيًا للعلماء اليوم: هل ما نفعله هو لمصلحة البشرية فعلاً؟

موقف الأديان السماوية: بين الإعجاز والتجاوز

ترى الأديان السماوية (الإسلام، المسيحية، وباقي الاديان ) أن الإنسان خُلق في أحسن تقويم، وأن التدخل في خلق الله يجب أن يتم بحذر بالغ وضمن حدود الضرورة، لا الترف أو الاستعلاء الجيني.

في الإسلام مثلاً، يُقر العلماء بأن التعديل الجيني العلاجي جائز إذا كان يهدف لإنقاذ حياة أو رفع ضرر، لكن تحسين الصفات أو تغيير الخِلقة بهدف التجميل قد يُعد من التعدي على خلق الله.

وفي المسيحية ، تتشابه المواقف من حيث التركيز على كرامة الإنسان ومشيئة الله في الخلق، والدعوة إلى عدم التجاوز في استعمال العلم بما يخلّ بتوازن الطبيعة أو العدالة.

التشريعات والرقابة العلمية

تسعى العديد من الدول إلى سن قوانين صارمة تنظم استخدام الهندسة الوراثية، خصوصًا على البشر. لكن غياب إجماع عالمي يجعل هذه الرقابة جزئية وغير فعالة.

من أبرز الأمثلة على ذلك إعلان عالم صيني عام 2018 ولادة أول طفلين معدلين جينيًا، ما أثار صدمة علمية وأخلاقية عالمية، وأدى إلى إدانته وسجنه لاحقًا.

الخاتمة:

الهندسة الوراثية تمثل بلا شك إنجازًا علميًا مذهلاً، لكنها مثل السيف، يمكن استخدامها في الخير كما في الشر.

ما نحتاجه اليوم ليس فقط تطوير التقنية، بل تطوير الوعي الأخلاقي والروحي الذي يرافق هذه القوة. علينا أن نسأل دومًا:

“هل يمكننا فعل ذلك؟” ليس السؤال الصحيح… بل: “هل يجب علينا فعله؟”

وفي نهاية المطاف، يبقى الباب مفتوحًا لحوار عالمي يشارك فيه العلماء، رجال الدين، الفلاسفة، والمجتمعات، لرسم مستقبل تقوده القيم والضمير، لا فقط الأدوات والمعادلات.


د. تمام كيلاني _ إستشاري جراحة العيون

رئيس اتحاد الأطباء والصيادلة العرب في النمسا _ فيينا


الوسوم :