منذ زمن والديمقراطيات الغربية في مأزق وأزمة، وبشكل خاص في أمريكا راعية الديمقراطية العالمية، ودون الدخول في أدبيات الديمقراطية الليبرالية في هذا الحيز، فقط نستند على معهد غوتنبرغ السويدي الذي يقيس حالة الديمقراطية وفق مبادئ تشمل العملية الانتخابية والليبرالية وتداول السلطة والمساواة أمام القانون، ويصنف الديمقراطيات حسب فئات من الديمقراطية الليبرالية، فالديمقراطية الانتخابية، وديمقراطية المنطقة الرمادية.
وأسس الديمقراطية الليبرالية تقوم على المساواة أمام القانون، والتداول السلمي للسلطة عبر الانتخابات، حماية حقوق الانسان، والإيمان بالنزعة الفردية القائمة على حرية الفكر والتعبير، والتسامح واحترام كرامة الإنسان، وضمان حقه بالحياة، وحرية الاعتقاد والضمير.
واستنادا إلى هذا التعريف هل تحترم الديمقراطيات الغربية هذه الأسس عندما يتعلق الأمر بإسرائيل؟
ما قبل الطوفان
دأبت إسرائيل ومنذ نشأتها أن تقدم نفسها كدولة ديمقراطية تدخل في منظومة الديمقراطيات الغربية ويتوجّب عليها دعمها سياسيًا وماديًا لأنها تدافع عن قيمها في منطقة تسودها قيم سلطوية ديكتاتورية. وتتولى هذه الديمقراطيات الحفاظ على الديكتاتوريات الشرق أوسطية للمحافظة على تعزيز هذه الصورة رغم كل ما ترتكبه إسرائيل من انتهاكات لأبسط قواعد الديمقراطية.
وقد وصف الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب” إسرائيل بـ “واحدة من أنجح الديمقراطيات في العالم” وقام بدعمها أكثر من أي رئيس أمريكي آخر ( وافق دونالد ترامب على ضم الجولان إلى إسرائيل، وعمل حثيثا على طمس الدولة الفلسطينية عبر اتفاقيات أبراهام بالترغيب بدفعات مالية، ونقل سفارة الولايات المتحدة إلى القدس) مع أن دولة الاحتلال أكثر دولة في العالم انتهكت القوانين الدولية (صدر عن الأمم المتحدة منذ قرار التقسيم 86 قرارا ضربت بها إسرائيل عرض الحائط بدعم من أمريكا وبغض الطرف من الدول الأوربية)
ففي الداخل في أراضي 48 لا توجد أي مساواة بين المواطن الإسرائيلي والمواطن الفلسطيني، بل أن الدولة تعمل بدأب على انتهاك حقوق الفلسطينيين بسلب أملاكهم وأراضيهم، ومساكنهم وما حصل في حي الشيخ جراح هو أحد الأمثلة العديدة التي انتزع فيها اليهود منازل الفلسطينيين بالقوة، وفي الضفة الغربية أقامت دولة الاحتلال عشرات المستوطنات بهدف تهويد الضفة والاستيلاء عليها، وتقوم القوات الإسرائيلية بارتكاب جرائم القتل بالشباب الفلسطينيين المحتجين على احتلال أراضيهم وتدمير منازلهم، وقوافل الشهداء لا تنتهي، واقتحام جينين أكثر من مرة وتدمير منشآتها وقتل شبابها مثال صارخ على جرائم الاحتلال وهذا على سبيل المثال لا الحصر.
(أقرَّ الكنيست الإسرائيلي في العام 2018 قانون “الدولة القومية لليهود في إسرائيل”، الذي ينص على أن “دولة إسرائيل هي الدولة القومية للشعب اليهودي، وأن إعمال الحق في تقرير المصير الوطني في دولة إسرائيل أمر خاص بالشعب اليهودي، وأن دولة إسرائيل تنظر إلى الاستيطان اليهودي بوصفه قيمة وطنية، ومن ثم تعمل على تشجيع وتعزيز إنشاء المستوطنات وتطويرها) وتشجع الحكومات الإسرائيلية انتهاك اليهود لمقدسات المسلمين وخاصة باقتحام المسجد الأقصى في كل مناسبة وغير مناسبة، ولا أحد في الغرب يوجه أي انتقاد، أو عقوبة على هذه الجرائم وكأن الأمر عادي تحت غطاء “لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها” أو تدلي بتصريحات فضفاضة ليس من شأنها سوى تعزيز جرائم الاحتلال، وممارستها الفصل العنصري بحق الفلسطينيين. ولكن هل سيكون الأمر بالمثل بنظر الغرب فيما لو اقتحم فلسطينيون مسلمون مثلا حائط البراق، أو دخلوا كنيسا يهوديا؟
بالتأكيد سيرفع ضدهم شعار “معاداة السامية” كسيف ديموقليطس مسلط على رقابهم.
عملية جراحية
عملية “طوفان الأقصى” كانت بمثابة عملية جراحية أعادت البصر لفاقده، فقد خلعت ورقة التين عن عورات الديمقراطيات الغربية بعلاقاتها بدولة الاحتلال، ونظرتها للفلسطينيين أمام شعوبها المضلل بهم منذ عشرات السنين.
فمنذ مؤامرة بلفور، وإنشاء دولة إسرائيل غضت الديمقراطيات الغربية قاطبة الداعية لحقوق الإنسان، وحق الشعوب في تقرير مصيرها، الطرف عن احتلال اليهود الصهاينة للأراضي الفلسطينية التي كانت بمثابة الحلقة الأخيرة في تاريخ الغرب الاستعماري، ولم تقم بأي جهد حقيقي خلال 75 سنة من الاحتلال من إنصاف الفلسطينيين المطالبين بحقهم ببناء دولتهم حسب قرار التقسيم الأممي. بل أنها حاولت دعم إسرائيل في كل مخططاتها في محو الهوية الفلسطينية، والسيطرة على جميع الأراضي، وجاءت الحرب على غزة لتظهر جليا فداحة التماهي الغربي مع إجرام إسرائيل بتسليحها ودعمها ماليا وعسكريا وسياسيا باستخدام الفيتو الأمريكي في كل مرة تدان فيها إسرائيل أو هناك قرارات بصالح فلسطين (رفض عضوية فلسطين في الأمم المتحدة مؤخرا، وصورة السفير الإسرائيلي وهو يمزق ميثاق الأمم المتحدة تظهر مدى عنجهية هذه الدولة ورفضها للقوانين الدولية)، ورفض حل الدولتين (يستثنى من ذلك بعض الدول الأوروبية)، ومع مشاهد الدمار الهمجي والقتل البربري للشعب الفلسطيني، انتفضت شعوب الغرب بأكمله ضد
الإبادة الجماعية في غزة، وقامت ثورة الطلاب في الجامعات التي قوبلت بعنف من قبل معظم سلطات الدول (الضامنة لحرية التعبير) التي قام طلاب جامعاتها باعتصامات داعمة للفلسطينيين، بل وسلطت الولايات المتحدة عليهم قانون معاداة السامية (قرر الكونغرس الأمريكي إصدار قانون يساوي فيه بين مطالب الطلاّب وبين معاداة السامّية لقطع الطريق عليهم وتسهيل اعتقالهم وتوجيه التهم لهم وإقفال هذا الباب نهائيا مستقبلا).
وهذه الدول التي تنادي بحرية الصحافة لم تحرك ساكنا بعد إقدام دولة الاحتلال على قتل أكثر من 140 صحافيا في غزة، وإغلاق مكاتب الجزيرة في القدس. والانتهاك الخطير لنواب أمريكيين جمهوريين ضد القضاء الدولي (محكمة الجنايات الدولية) بتهديدهم في رسالة موجهة إلى المدعي العام للمحكمة كريم خان “في حال إقدام المحكمة الجنائية الدولية إصدار مذكرة اعتقال بحق نتنياهو ومسؤولين إسرائيليين آخرين، فإن الخطوة ستعتبر تهديدا ليس فقط لسيادة إسرائيل، ولكن لسيادة الولايات المتحدة أيضا، مما ستترتب عليه عقوبات ثقيلة”
وهدد النواب في رسالتهم المدعي العام “إذا استهدفت إسرائيل، فسنستهدفك أنت وعائلتك”. وختموها بعبارة “لقد تم تحذيرك”.
كما حاولت الإدارة الأمريكية الضغط على محكمة العدل الدولية بعد الدعوى التي تقدمت بها دولة جنوب افريقيا ضد إسرائيل باتهامها ارتكاب جرائم حرب وضد الإنسانية، وقال السيناتور الديمقراطي كريس فان هولين: “من الخطأ تمامًا التدخل في مسألة قضائية من خلال تهديد المسؤولين القضائيين وأفراد أسرهم وعائلاتهم.. هذه “البلطجة” شيء يليق بالمافيا، وليس بأعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي”. وطالبت المحكمة بالتوقف عن ترهيبها، وعما وصفه بترهيب العاملين في المحكمة، قائلا إن مثل هذه التهديدات قد تشكل جريمة بحق المحكمة المختصة بجرائم الحرب. وقال متحدث باسم البيت الأبيض قبلها، إن المحكمة لا تتمتع بالاختصاص القضائي “في هذا الوضع ونحن لا نؤيد التحقيق الذي تجريه”. لكن الولايات المتحدة أيدت بسرعة كبيرة العقوبات على روسيا واعتقال رئيسها فلاديمير بوتين، وهذا ما تعود العالم أن يراه من تطبيق الوزنين والمعيارين في كل مرة يتعلق الأمر بإسرائيل. وكل هذا ما يقودنا إلى التساؤل هل رايات الديمقراطيات الغربية بدأت ثقوبها تتسع بدفاعها على ضلال عن كل ما تقوم به دولة الاحتلال، التي دخلت مربع الديمقراطية الرمادية؟
كاتب سوري