سوريا منذ معاهدة لوزان حتى اليوم

توقيع معاهدة لوزان
توقيع معاهدة لوزان

(عن القدس العربي)

من كل البلدان التي كانت معنية بالحرب العالمية الأولى، أو وقع عليها انعكاساتها، وسقوط السلطنة العثمانية من قريب أو من بعيد، كانت سوريا البلد الأكثر خسارة جغرافيا، واقتصاديا، واجتماعيا جراءها، وكل الفاعلين في إرهاصات هذه الحرب وما بعدها تآمروا عليها وعلى مستقبلها كدولة. وكأن قدرها خلال قرن منذ اتفاقية لوزان، والاتفاقيات التي سبقتها أن تكون على مذبح الاتفاقات الدولية، وعلى مسار تاريخي أدخلها في متاهات وأنفاق صعب عليها وعلى شعبها الخروج منها (اتفاقية لوزان التي أبرمت بين الحلفاء وتركيا في 24/7/ العام 1923 التي حددت في المادة رقم 3 حدود تركيا مع سوريا والعراق وبلاد فارس).

اتفاقية سايكس بيكو

وتأتي هذه المعاهدة تكميلا لاتفاقية سايكس بيكو (الاتفاقية السرية بين فرنسا وبريطانيا سوريا والعراق لتقسيمهما ووضعهما تحت الانتداب)، ووعد بلفور (وعد وزير الخارجية البريطاني أرثر بلفور بإنشاء وطن يهودي في فلسطين 1916)، ومعاهدة سيفر التي لابد من التوقف عندها قليلا، فهذه المعاهدة تضمنت تخلي السلطنة العثمانية عن كل الأراضي التي كانت تحت سيطرتها ويقطنها غير الناطقين باللغة التركية ومنها البلاد العربية التي تشمل ضمنها سوريا الكبرى والعراق التي كان الحلفاء يخططون احتلالها عن طريق تشريعها بالانتداب من قبل عصبة الأمم في مؤتمر سان ريمو.

(عقدته دول الحلفاء في نيسان/أبريل 1920 لرسم الحدود في الهلال الخصيب قسمت سوريا الكبرى بموجبه إلى سوريا، ولبنان، وفلسطين، والأردن ووضعها تحت الانتداب الفرنسي البريطاني بما فيها العراق)، تبع هذا المؤتمر اتفاقية أنقرة (20 تشرين الأول/ أكتوبر 1921) بين فرنسا كدولة تحكم سوريا بموجب صك الانتداب وتركيا لترسيم الحدود بين تركيا وسوريا، وتم الاتفاق على ضم تركيا أراضي سورية (قيليقيا العربية) والتي تضم كل أقاليم سوريا الشمالية (مرسين، طرسوس، أضنة، كلس، مرعش، أورفا، بيرة جك، حران، ماردين، نصيبين، جزيرة ابن عمر).

ويأتي هذا الاتفاق بعد أن انتصرت السلطنة العثمانية على الحلفاء في معركة جناق قلعة (غاليبولي) بقيادة مصطفى كمال في 18آذار/مارس 1915 وهي المعركة التي أنقذت تركيا بعد أن كان الحلفاء ينوون الدخول إلى إسطنبول ومحو السلطنة العثمانية عن بكرة أبيها والاستيلاء على مضائق البوسفور والدردنيل. (هنا لابد من التنويه أن الباب العالي في إسطنبول أعلن النفير العام “سفر برلك” في جميع أنحاء السلطنة مع إعلان الحرب العالمية الأولى وقد شارك فيها عشرات الآلاف من السوريين الذين فقد معظمهم على جبهات القتال لكن نادرا ما يتم ذكرهم)

فرنسا وتجزيء المجزأ

على أعقاب انتصار الحلفاء وسقوط الدولة العثمانية وانسحابها من سوريا في 13تموز/ يوليو 1918 بعد أربعة قرون بالتمام والكمال ( انتصر السلطان سليم الأول على قنصوه الغوري المملوكي في معركة مرج دابق في شمال سوريا في 8 آب/أغسطس 1516 ودخل فاتحا سوريا في أول تمدد عثماني في البلاد العربية ) اجتاحت القوات الفرنسية بقيادة الجنرال هنري غورو سوريا في 24 تموز/ يوليو/1920 بعد معركة ميسلون بين 3000آلاف متطوع سوري يقودهم وزير الدفاع يوسف العظمة وجيش كامل العدد والعتاد يقوده الجنرال ماريانو غوابييه قتل وأصيب خلالها نصف جيش المتطوعين بمن فيهم يوسف العظمة. ودخل غورو دمشق بعد أيام ليصفي ما بقي من الجيش العربي والمملكة العربية التي كانت بقيادة الأمير فيصل بن الحسين وطرده من سوريا (ويشاع أنه وضع قدمه على ضريح صلاح الدين وقال ها قد عدنا يا صلاح الدين) ويعتبر الانتداب الفرنسي على سوريا واحتلالها لمدة 46 سنة بداية لتجزئتها والكلمة الأدق “لتمزيقها” إلى نتف، فبعد أن رسم غورو حدود لبنان بيد واحدة (كان مقطوع الذراع)، ورسم ونستون تشرشل نشوء مملكة الأردن وفلسطين (يقول في مذكراته لقد أنشأت دولة الأردن بشحطة قلم مساء يوم أحد)، جاءت اتفاقية أنقرة (المذكورة سابقا) لتسلخ ما مساحته حوالي 50 ألف كم2 من الأراضي السورية. لكن العملية لم تنته هنا بل حاول غورو ترسيخ تقسيم آخر كاد أن يمحي سوريا كدولة من الوجود. إذ قسم الانتداب الفرنسي سوريا إلى ست دويلات، وهي دولة دمشق، ودولة حلب، ودولة العلويين، ودولة جبل الدروز، والإسكندرون (حاليا هاتاي)، ولبنان الكبير الذي هو حاليا الجمهورية اللبنانية، (ومن الملاحظ أن الانتداب لم يعط للأكراد أي اعتبار سياسي). لكن الثورة السورية الكبرى التي انطلقت في 21 تموز/يوليو1925 بقيادة زعيم الدروز سلطان الأطرش وعمت جميع أنحاء سوريا وشارك فيها الكثير من الأردن ولبنان، واستمرت لمدة عامين احتجاجا على التقسيم، وإرساء سياسة طائفية بالتقرب من الأقليات وخاصة المسيحيين والعلويين، أرغمت الجنرال غورو على التراجع عن خطة التقسيم والقبول بالانفتاح على الكتلة الوطنية. لكن العلويين أصروا على انسلاخهم عن الدولة السورية بطلب من زعاماتهم برسالة شهيرة أرسلت إلى رئيس وزراء فرنسا ليون بلوم يطالبون فرنسا بالانفصال عن سوريا وبناء دولة العلويين.

ومن الموقعين على الرسالة جد رئيس النظام السوري بشار الأسد باسم سليمان الوحش (وهي الكنية الأصلية لعائلة الأسد، ويمكن الاطلاع على الرسالة بمحركات البحث وهي محفوظة في سجلات الخارجية الفرنسية) لكن التقسيم لم ينته والتآمر على سوريا ظل مستمرا.

فقبيل الحرب العالمية الثانية وكانت فرنسا بصدد بناء خط ماجينو على الحدود الألمانية تحسبا لهجوم ألماني نازي، وتخشى دخول تركيا الحرب سندا لحليفها القديم ألمانيا فكان شرط تركيا أن تضم لواء اسكندرون مقابل عدم دخولها الحرب العالمية. فقامت فرنسا بإعادة منح المحافظة الخامسة عشرة في سوريا لواء اسكندرون حكمًا ذاتيًا مع بقائه مرتبطا شكليا بالجمهورية السورية، وفي العام التالي 1939 ألغت الارتباط وانسحبت من الإقليم (وهو من أجمل وأغنى المناطق السورية) ، في حين دخلت لواء اسكندرون قوات تركية، وقامت بضمه وإعلانه جزءًا من الجمهورية التركية تحت اسم هاتاي، وهذا ما يخالف صك الانتداب الذي ينص على أن الدولة المنتدبة يجب أن تحافظ على أراضي الدولة التي تنتدبها.

وهكذا خسرت سوريا مرة أخرى مساحة 4800 كم2 من أراضيها لصالح تركيا. وظلت الحكومات السورية المتعاقبة تطالب به إلى أن تخلى عنه حافظ الأسد ضمن اتفاقية أضنة السرية في 20 تشرين الأول/أكتوبر 1998

الاستقلال والعودة للاحتلال

نالت سوريا استقلالها عن فرنسا في 17 نيسان/أبريل 1946 وتولى شكري القوتلي رئاسة سوريا كأول رئيس بعد الاستقلال. وهي المرة الأولى في التاريخ تتكون سوريا كدولة مستقلة ذات سيادة ديمقراطية ودستور وعلم ومقعد في الأمم المتحدة، والجامعة العربية، لكنها لم تهنأ عيشا وخاصة بعد قيام دولة إسرائيل على حدودها واضطرارها خوض حروب متتالية ضدها باسم الشعب الفلسطيني، لكن خوضها حرب الخامس من حزيران/يونيو 1967 إلى جانب مصر والأردن جعلها تخسر جزءا آخر من أراضيها: الجولان وهو من أهم المناطق الاستراتيجية.

وخسارة الجولان جاءت بأمر من حافظ الأسد الذي كان يشغل منصب وزير الدفاع بالانسحاب من الجولان دون قتال وتسليم الهضبة للإسرائيليين والذي يعتبره السوريون خيانة عظمى.

(وبهذا يكون حافظ الأسد قد تخلى عن اسكندرون والجولان). مع تولي الوريث بشار الأسد واندلاع الثورة السورية في 15/18آذار/ مارس 2011 ونجاح الثوار بالسيطرة على معظم الأراضي السورية طلب الأسد النجدة من إيران وروسيا اللتين كانا ينتظران الدعوة بفارغ الصبر للتمدد في الأراضي السورية وبناء القواعد العسكرية البرية والبحرية وبهذا عادت سوريا للاحتلال من جديد، وأصبح وضع سوريا حاليا أسوأ مما كان عليه خلال الانتداب الفرنسي. ففي شرق الفرات تسيطر قوات سوريا الديمقراطية بدعم من الولايات المتحدة التي توجد لها قواعد عديدة في المنطقة وفي منطقة التنف في الجنوب مساحتها حوالي 30 في المئة من مساحة سوريا، ويحتل حزب الله اللبناني على مساحات واسعة على الحدود اللبنانية السورية في منطقة القلمون وحمص وحوض بردى، وتحتل إيران مناطق واسعة في منطقة دير الزور وأرياف دمشق وحلب، وتسيطر المعارضة على منطقة إدلب بدعم من القوات التركية.

وتسيطر روسيا على حميميم وطرطوس ومناطق أخرى بنت فيها قواعدها، وتسيطر إسرائيل على الأجواء السورية. ولم يعد النظام السوري يسيطر سوى على بعض المدن ومنطقة الساحل وهذا هو أصعب وضع وصلت إليه سوريا من التمزيق والتشرد في تاريخها القديم والحديث.

كاتب سوري