كانت سوريا تعتبر من الدول التي تعايش فيها أكثر من 20 مجموعة طائفية وعرقية تحت ظل الدولة الواحدة، حتى خلال حقبة الخلافات الإسلامية (من الراشدين، للأمويين، والعباسيين، والفاطميين، والأيوبيين، والمماليك، والعثمانيين).
تحت دولة الانتداب حاول الفرنسيون تقسيم سوريا على أساس طائفي إلى خمس دول (سنية، علوية، درزية)، لم يحسب فيها حساب دولة كردية أو مسيحية.
سلطان باشا الأطرش
وقد أفشلت مساعي فرنسا بثورة سورية قادها سلطان باشا الأطرش (زعيم درزي). وحدهم فقط زعماء النصيرية طلبوا من رئيس وزراء فرنسا آنئذ ليون بلوم أن يخصص لهم دولة في رسالة شهيرة “يشكون من المسلمين” الذين سيفتكون بالنصيريين كما فتكوا باليهود في فلسطين” وكان أحد الموقعين عليها سليمان الوحش جد رئيس النظام السوري الحالي بشار الأسد.
تحت حكم دولة الاستقلال كان الحكم للأكثرية السنية بانتخابات ديمقراطية وبرلمان منتخب، لكن نكبة العرب في العام 1948 قلبت كل موازين السياسات ليست السورية فقط ولكن العربية بمجملها، مع أول انقلاب عسكري لحسني الزعيم (كردي)، ثم لفوزي سلو (كردي)، ثم أديب الشيشكلي (كردي)، وإن أحدا منهم لم يقم بمحاولة انفصال للأكراد عن الدولة المركزية.
المسيحيون بكل طوائفهم كانوا متماسكين مع باقي مكونات المجتمع فكان منهم النواب، والوزراء، ورؤساء وزراء، ورئيس برلمان (وهناك مثال شهير مع رئيس الوزراء المسيحي فارس الخوري الذي صوت له نواب كتلة الإخوان المسلمين في البرلمان لاستلام حقيبة وزارة الشؤون الإسلامية).
تلاحم المجتمع السوري
هذه لمحة بسيطة وسريعة للمشهد السوري قبل حكم البعث، ثم حكم “الجملكية” الأسدية، والأمثلة على تلاحم المجتمع السوري كثيرة.
وتربت أجيال على هذه المعايير الاجتماعية التي لم تكن ترى فرقا ولا تمايزا بين مكوناتها الاجتماعية والطائفية والعرقية. بل والقومية فالسوريون كان جلهم قوميين وأيدوا الوحدة مع مصر وتخلى الرئيس شكري القوتلي عن الحكم لصالح الرئيس جمال عبد الناصر.
انقلاب البعث
يعتبر انقلاب حزب البعث في 8 آذار- مارس 1963 يوما مفصليا في تاريخ سوريا الحديث.
ما بين سوريا قبل البعث، وسوريا ما بعد البعث. إنقلاب البعث الذي قامت به فعليا ما سمي باللجنة العسكرية (محمد عمران، صلاح جديد، حافظ الأسد من الطائفة النصيرية، وأحمد المير وعبد الكريم الجندي من الطائفة الإسماعيلية) هذه اللجنة اعتمدت على واجهة سنية ( لؤي الأتاسي، صلاح الدين البيطار، أمين الحافظ، مصطفى طلاس، نور الدين الأتاسي ) وشخصية مسيحية متمثلة بأمين عام حزب البعث ميشيل عفلق. وشارك به دروز (سليم حاطوم).
لكن الصراع على السلطة، فكك اللجنة العسكرية واستطاع حافظ الأسد تصفية خصومه وخاصة زملاءه في اللجنة العسكرية جميعا (باغتيال عمران، وسجن جديد حتى الموت، وانتحار الجندي، ونفي المير)، بعدها استولى على الحكم بلا منازع وبدأت مرحلة تطويف النظام، وسياسية القضاء على المكون السني الذي يشكل الأكثرية (لكن مع الاحتفاظ ببعض الشخصيات السنية في الواجهة، والتحالف مع بعض تجار دمشق وحلب)، وتفضيل بعض المكونات الأخرى الطائفية، وتمكين القبضة الأمنية عبر إنشاء الفروع المخابراتية. واعتقال عشرات آلاف المعارضين وجلهم من الأكثرية السنية، والقتل تحت التعذيب والاختفاء القسري.
ضياع الأجيال
نشأ جيل كامل من السوريين تحت حكم العائلة الأسدية، هذا الجيل لم ير سوى صور الأسد، وتماثيله المنتشرة في كل مكان وزاوية، ولا يسمع سوى خطاب الأسد، وثقافته هي الثقافة البعثية، وثقافة وسائل إعلام الدولة المسيطرة والقابضة على كل مفاتيح الثقافة. ويشاهد أن العنصر النصيري (العلوي) هو المسيطر، وهو الذي يملك كل الامتيازات والمناصب، ما جعل الهوة الطائفية تتسع يوما بعد يوم.
وصارت كل طائفة تتقوقع حول نفسها، وتنظر بحذر إلى الطوائف الأخرى، (تم تحييد الأكراد بل وتم قمع انتفاضة لهم، والدروز وخاصة بعد إعدام سليم حاطوم، وإبعاد الاسماعيليين) وصارت الحواجز الاجتماعية تبعد السوري عن السوري، ويخشى كل واحد منهم الآخر، وتعاظمت مشاعر العداء بينهم دون الإفصاح عنها.
وظهرت طبقة الأغنياء الجدد التي استأثرت بثروات البلاد وجلها من الطائفة النصيرية، ولمع منها أسماء من أقرباء عائلة الأسد ومقربيه، ما أثار الشعور بعدم المساواة وسياسة تفقير الطبقات المتوسطة التي كانت في جلها من السنة.
وهذا ما انعكس على مئات آلاف الشباب الذين لم تعط لهم أي فرصة للنجاح، وتدهورت المنظومة التعليمية، وانعدم القانون، بعد دمج السلطة القضائية والتشريعية بالسلطة التنفيذية وتمركزها في يد شخص واحد هو رئيس النظام.
وانعدمت الحريات بكل أشكالها، وهذا ما دفع الشعب السوري إلى الثورة بعد أربعة عقود من الحكم الأسد مع أول شرارة انطلقت من سيدي بوزيد في تونس وكنست نظام زين العابدين بن علي، ثم ألحقته بنظام حسني مبارك في مصر، ومعمر القذافي في ليبيا.
أجيال ما بعد الثورة
كان الشعب السوري المنتفض ضد هذه العائلة ونظامها الطائفي يعي تماما سياسة النظام في تفريق مكونات المجتمع فكان أول شعار أطلقه الثائرون: “واحد، واحد، واحد الشعب السوري واحد”، وهذا دليل على رفض الطائفية، والدعوة للوحدة الاجتماعية والعودة بسوريا إلى الزمن الجميل.
منذ بداية الثورة نشأ جيل آخر، هذا الجيل الجديد لن يكون متجانسا أبدا فالسوريون الذين أصبحوا لاجئين في أركان الأرض الأربعة ستختلف عاداتهم، وثقافاتهم وخاصة الذين هم بأعمار الطفولة فهناك حوالي مليون سوري في ألمانيا سيذوبون في المجتمع الألماني ولن يعودوا إلى سوريا، وهذا ما ينسحب على اللاجئين السوريين في أوروبا (السويد، هولاندا، فرنسا، بريطانيا، إسبانيا، إيطاليا، اليونان )، وهناك حوالي أربعة ملايين لاجئ في تركيا حصل عشرات الآلاف منهم على الجنسية التركية وهم يرفضون العودة إلى سوريا رغم المناداة بمشروع عودة مليون لاجئ إلى المناطق المحررة، وفي لبنان هناك أكثر من مليون لاجئ، عشرات آلاف الأطفال لا يجدون المأوى المناسب، ولا المدارس، وبمعنى آخر سينشأ جيل من الأميين أو نصف أميين وإن عادوا إلى سوريا يوما ما فلن تتوافق ظروفهم مع سوريي الداخل، وهذا ينطبق على لاجئي الأردن أيضا.
أما النازحون في المناطق المحررة فهم الأكثر تضررا ويعيشون في مخيمات تفتقر لكل مستلزمات الحياة، وهنا أيضا ينشأ جيل آخر لا علاقة له بأي جيل آخر في المنافي أو حتى في الداخل من الذين يعيشون تحت سيطرة النظام.
هذا الوضع الاجتماعي لم يشهده مجتمع في العالم فنصف الشعب السوري مهجر، والنصف الآخر يعيش بزاد كفاف يومه، وهذا يتطلب دراسات اجتماعية معمقة لفهم هذا الوضع الاجتماعي الجديد الذي يعيشه السوريون بعد أن قام النظام بكل وسائله بتفتيت المجتمع ليصبح كما ادعى رأس النظام: “مجتمعا أكثر تجانسا”.
ولن تظهر نتائج هذا التفتت إلا بعد حين، فالانعكاسات ستكون كبيرة، وكبيرة جدا، والشعب السوري لن يكون كما كان.
كاتب سوري