قبور أطفال الغوطة لا تزال تتنفس غاز السارين

قبور أطفال الغوطة لا تزال تتنفس غاز السارين
قبور أطفال الغوطة لا تزال تتنفس غاز السارين


كانت الغوطة على عادتها العتيقة، في ذاك الصيف، فردوسا فيها من الفواكه ألوان، والنخل ذات أكمام، عصافير تلهو على الأفنان، وأطفال يعرصون في ظل دوحة، وكأن المشهد رسم في لوحة.

تسلل ليل يوم الأربعاء في الواحد والعشرين من آب 2013، والليل ظليل، وخلد الناس إلى بيوتهم مخطئين ظنا بليلة هادئة بعد قصف أيام مركز عليهم بكل ما أوتي النظام من أسلحة. هدهدت الأمهات أطفالهن، وحكين لهم حكايات جدات جديدة. أخذتهم سِنة ونوم قريرين العين في أحضانهن، وران الصمت بعد توقف أخر عصفور ساهر عن السقسقة، وآخر صرصور حقل شارد عن الوسوسة. الريح حملت عبق مسك الليل، والياسمين، والبدر دينار كعرجون قديم نشر ضياء فضية.

في الجانب الآخر كانت التحضيرات على قدم وساق، طائرات تحمل حقدا على من ناموا في حضن أمهاتهم، وعلى العصافير، وعبق الياسمين، ومسك الليل، وحتى على القمر الذي حمم الغوطة بضياء فضية. حلقوا فوق زملكا، وعين ترما، وعربين،والمعضمية..

بدأ القصف الساعة الثانية والنصف، واستمر أكثر من ساعتين بصواريخ تحمل غاز السارين ( الأعصاب )، تسرب الغاز القاتل إلى المنازل، تسلل عبر النوافذ، والأبواب إلى أنوف من استسلموا بأمان لأوسان دبقة على الأجفان. لم تحظ الأمهات بنظرة وداع من فلذات الأكباد وهي تستنشق السارين وتسافر أرواحها إلى السماء، لأن أرواحهن سافرت قبلهم. هاج الناس وماجوا، وهرعوا إلى اسطحة المنازل، وليس بينهم وبين الموت عازل، تناثرت الجثث في كل ركن، وفي الشوارع، عائلات بأكملها غطت في سبات الموت بعد تنفسها السارين. العصافير نفقت في أعشاشها، ديوك المزارع لم تنذر بقدوم ذاك الفجر الذي انبلج عن مئات الجثث في البيوت، وعلى الأسطحة، نساء يولولن أمام جثث أطفالهن الذين غطوا قبل ان تكتمل الحكاية، رجال يصفون جثث الأطفال صفا صفا مدثرين بأكفان بيضاء، مكشوفي الوجه للتعرف عليهم بعد أن مات أولياؤهم.. عجوز وقفت تضرب على رأسها وتصيح:" الله لا يوفقك يا بشار، الله يبليك بولادك مثل ما بليتنا بولادنا"، رجل حمل صبيا يركض صارخا أسعفوا ولدي "منشان الله" كان على آخر نفس، رشوا عليه الماء وهو مغمي، لم ينفع الماء فغاز سارين بشار قد تغلغل في الرئتين ومعه كل تميمة لا تنفع، سيارات إسعاف ملئت بنصف أحياء، أو بنصف أموات مطلقة أبواقها. استفاق العالم على هول الصدمة، سلاح كيماوي لم يستعمل منذ الحرب العالمية الثانية بين أعداء متحاربين، اليوم يستعمل لقتل أطفال ومدنيين مع سابق الإصرار والتصميم، جرائم نكراء ضد الإنسانية لم يذكر التاريخ أن حاكما مستبدا فعلها لقتل شعبه.

الإدارة الأمريكية ذرفت دمع التماسيح، وقال أوباما: " إنه خط أحمر"، وصرحت مستشارة بشار الأسد بكذبة لا يصدقها حتى المجانين "بأن المعارضة جاءت بهؤلاء الأطفال من جبال العلويين لتقتلهم بغاز السارين في الغوطة". واعتقد البعض أن أمريكا التي وضعت الخط الأحمر الذي لا يمكن التسامح معه خاب أملهم، فأوباما محا خطه الأحمر، كمن "خط خطا في الهوا ومحا". العالم وقف عاجزا عن قصاص قاتل الأطفال " بالكيماوي " والإدارة الأمريكية محت خطها الأحمر في سورية، وشنت حربا مدمرة على نظام العراق بحجة تملكه أسلحة كيماوية، وكانت حجة واهية. لذا تمادى المجرم في إجرامه، رغم أن لجان المفتشين أكدوا خلو سورية من السلاح الكيماوي بعد أن سلم النظام كل أسلحته كي يهرب من العقاب، ولكن اكتشف العالم أن النظام "كذاب" فالأسلحة الكيماوية من سارين وخردل وكلور، استخدمت عشرات المرات، وخان العسل، وخان شيخون، وسواهما شاهدة على ذلك، ورغم أن دونالد ترامب وصف بشار "بالحيوان" كسابقه لم يتخذ أي إجراء رادع سوى ضربة صاروخية،كضربات مدافع رمضان، دوي كبير وجعجعة للإشارة أن القاتل الكيماوي نال عقابه.. وأي عقاب، كان يفرك كفا بكف في قصر المهاجرين وهو يكشف عن ضحكة عريضة لما بعد النواجذ، فهناك من يشفع للقاتل: كل من له بيت من قش وخشي مد نار الثورة، وكل من يرى في سورية "دجاجة محمرة" ويريد أن ينهش من لحمها، وكل من انتمى إلى أقلية واستفاد من نظام طائفي أعطاه بعض الميزات، وخشي عودة الأكثرية، كل من رأي في الميليشيات " الإسلامية" المسلحة خطرا إرهابيا يهدد أمن بلاده، كل من استفاد من نظام يدوم منذ نصف قرن ونيف دون أن يطلق رصاصة واحدة عليه من حدود الجولان المحتل، كل من نهب، و"عفش"، واستلم مناصب ليس أهلا لها وانغمس في عسل الفساد حتى النخاع، كل من يخشى المحاسبة بعد سقوط نظام لا مندوحة عن سقوطه، لكن قبور أطفال الغوطة لا تزال تتنفس السارين، وذاكرة السوريين لا تنسى دم أطفالها.