كتاب "غرب كنيس دمشق" للباحث التاريخي "سامي مروان مبيض" بدأ كرسالة دكتوراه في إحدى الجامعات البريطانية، ثم تحول عام 2017 إلى كتاب صدرت طبعته الأولى عن "دار رياض نجيب الريس للنشر"، شارك في إنجاز القسم الأول منه، كما تقول مقدمته، شخصيات سورية مرموقة مثل عبد الوهاب حومد ومنير العجلاني وسلمى الحفار الكزبري وعبد السلام العجيلي وعبد الله الخاني.
منذ أطلق الصحفي تيودور هرتزل وصديقه الثري روتشيلد، عام 1897، الحركة الصهيونية الهادفة إلى تهجير يهود العالم إلى فلسطين وإقامة وطن قومي لهم فيها، صار السوريون محل اهتمام مشروع استعماري استيطاني عالمي، يريد أن يؤقلم حياتهم وكيانهم مع طموحاته وأهدافه.
الكتاب المؤلف من 400 صفحة، يرصد 40 عاماً (1914-1954) من جهود أصحاب المشروع الصهيوني، للتأثير على سوريا والسوريين، تأثيراً عميقاً وحاسماً، يجعل منهم مجرد ملحق أو مكمل لهذا المشروع.
يبدأ الكاتب بشهادة تختصر مضمون الكتاب وموضوعه، يقول: “في اجتماع منتصف الخمسينات بين موشيه شاريت ثاني رئيس حكومة في إسرائيل، مع سلفه ديفيد بن غوريون، أول رئيس حكومة في إسرائيل، قال الأول للأخير: إسرائيل لا يمكن أن تستمر وتنمو في ظل نهضة كل من سوريا والعراق ولبنان على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية".
ويستعرض الكاتب بالتفصيل كيف سعت الحركة الصهيونية لاختراق المجتمع السوري، والتأثير فيه، عبر إقامة علاقات مع شخصيات سورية بارزة، ليقبل هدفي الحركة، وهما التهجير وإقامة الوطن القومي في فلسطين.
ويخلص الكتاب إلى أن المحاولات الصهيونية بين عامي 1914 و1954 باءت بالفشل، ولم تحصل الحركة الصهيونية، ولا دولة إسرائيل، على أي تنازل من السوريين، وتمت مواجهتها بحزم وبرفض حاد، باستثناء حالتين، هما إبداء الملك فيصل الأول استعداداً لتقبل المشروع الصهيوني عام 1919، وإبداء زعيم أول انقلاب عسكري في سوريا حسني الزعيم رغبته في دخول مفاوضات سلام شاملة مع إسرائيل عام 1949.
وتشاء الأقدار أن الحالتين لم تستمرا طويلاً، ولم تحققا أي نتائج على أرض الواقع، نظراً لسقوط حكم صاحبيهما (الملك فيصل الأول، والانقلابي العسكري حسني الزعيم) بعد فترة قصيرة من قيامه.
ويرصد الكتاب انتقال السوريين في تلك الفترة، من سياسة الاجتماع مع ممثلي الحركة الصهيونية وإخبارهم بوضوح لا لبس فيه، رفضهم لفكرتي التهجير إلى فلسطين وإقامة الوطن القومي فيها، إلى سياسة المقاطعة التامة في نهاية الأربعينات، وخاصة بعد قيام دولة إسرائيل، حيث قاطعت الحكومات السورية المتتابعة، والأدباء والمثقفون والوجهاء، أي نشاط تحضره إسرائيل.
ويرى الكاتب أن الشخصيات الوطنية السورية الأشد رفضاً للمشروع الصهيوني، دفعت ثمن موقفها، فأجبر رجالات الكتلة الوطنية على الاستقالة عام 1939، وأطيح بالرئيس شكري القوتلي في انقلاب عسكري عام 1949، بسبب ردهم المباشر والعنيف على مطالب الحركة الصهيونية، حسب اعتقاد الكاتب.
ويقر الكاتب بأنه مقابل فشل الحركة الصهيونية في استمالة الشخصيات الوطنية السورية، فإن الحركة نجحت في إفراغ سوريا من المكون اليهودي (أكثر من 30 ألف نسمة) ودفعه للهجرة الجماعية، حتى لم يبق منه سوى عشرات الأشخاص في كل أنحاء سوريا، مستخدمة للوصول إلى ذلك كل الأساليب، بما فيها تلك البعيدة عن النزاهة.
ويستعرض "سامي مروان مبيض" بكثير من التفصيل، وبشهادات خاصة من أصحاب الشأن، ومن عاصروهم، أهم المحاولات الصهيونية لاختراق المجتمع السوري في الفترة محل الدراسة، وهي:
- في عام 1913 عقدت اجتماعات غير رسمية في القاهرة للتعريف بالمشروع الصهيوني، بين شخصيات صهيونية ووجهاء سوريين، أبرزهم حقي العظم، الذي أصبح لاحقاً رئيساً للحكومة السورية. ورفض العظم بحدة المشروع الصهيوني، والإغراءات الكبيرة التي قدمت له لقبوله.
- وفي عام 1914 زار دمشق الأمين العام للمؤتمر الصهيوني العالمي نعوم سوكولوف، والتقى الزعيم الوطني عبد الرحمن الشهبندر، برفقة شكري العسلي ومحمد كرد علي، ورفض قيام دولة عبرية في فلسطين، ورفض تخصيص هجرة اليهود بفلسطين، وقبل أن تكون عامة لكل دول المشرق، بشرط تخلي المهاجرين عن جنسياتهم الأوروبية، وعدم سلب الفلسطينيين أراضيهم.
- المحاولة الثالثة تمت عام 1918، في عهد الملك فيصل الأول المدعوم من بريطانيا، بعد شهرين من نهاية الحكم العثماني، وبعد 4 سنوات من الحرب العالمية الأولى (السفر برلك) التي أفقرت الناس بشكل مريع، حيث وصل لدمشق وفد من الوكالة اليهودية لمعاينة أوضاع يهود دمشق، ومعرفة مدى تقبلهم الفكر الصهيوني، وإمكان فتح مكتب للوكالة في دمشق.
- وفي عام 1918 كان أول اجتماع مع شخصية عسكرية سورية، حيث التقى الوفد مع الفريق رضا الركابي، حاكم دمشق العسكري، وأول رئيس وزراء في عهد الاستقلال. ورفض الركابي توزيع الوفد الأموال على اليهود السوريين، ورفض بشدة إقامة دولة على أساس الانتماء الديني.
- وفي عام 1919 قدم الصهيوني غليوم هيكر مشروعاً لإعادة بناء مدينة دمشق (وخاصة حارة اليهود) على النمط الأوروبي، بمال صهيوني، وداعب المشروع أحلام الفقراء والطامحين، وخلق نواة للحركة الصهيونية في دمشق، وإن كان لم ينفذ لرفض قادة الحركة الصهيونية له.
- وفي صيف 1919 أرسل الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون لجنة كينغ - كراين لاستطلاع الوضع في سوريا وفلسطين، فالتقى وفداً من يهود دمشق، اختارته الحركة الصهيونية (التي مضى عليها 9 أشهر من النشاط والإنفاق)، فطالب الوفد بإخضاع سوريا لانتداب أوروبي، وبفتح أبواب الهجرة إلى فلسطين دون قيود.
وعمت المظاهرات سوريا ضد مطالب الوفد، وتوشحت الصحف السورية بالسواد في الذكرى الثانية لوعد بلفور، وخلصت اللجنة في تقريرها للرئيس الأمريكي إلى أن العداء للصهيونية ورفض وعد بلفور، يعم سوريا كلها، سوى أقلية من السكان.
- وفي 18/7/1919 اجتمع حاخام الشام يعقوب دانون، مع فيصل (فيصل كان التقى الزعيم الصهيوني حاييم وايزمان بوساطة بريطانية في الأردن في 4/7/1918 قبل دخوله دمشق ب 3 أشهر، وأسفر اللقاء عن قبول فيصل قيام كيان عبري ضمن دولة عربية واحدة على الأراضي المحررة من الحكم العثماني يحكمها الهاشميون، وقبل دعم الصهيونية للثورة العربية ضد العثمانيين).
وفي 3/12/1919 وقعت اتفاقية فيصل - وايزمان، وافق فيها فيصل على هجرة اليهود لفلسطين، وقيام دولة عبرية فيها.
- وفي عام 1920، وفي نهاية العهد الفيصلي، وصلت مطبعة حديثة من حيفا بالأحرف العبرية، وتم تأسيس أول صحيفة باللغة العبرية، مقرها دمشق، ولم يصدر من الصحيفة سوى 3 أعداد، ثم أغلقت برفض شعبي وسياسي واسع، لاتهامها بأنها ممولة من الحركة الصهيونية.
- وفي عام 1920 بدأ الانتداب الفرنسي، وقسمت سوريا لدويلات، وعين حقي العظم، المعادي بشدة للصهيونية، رئيساً لدويلة دمشق، فقيد دخول الأجانب من فلسطين لسوريا، وجعل ذكرى وعد بلفور يوم غضب وطني، وأزاح الحاخام يعقوب دانون من منصبه، واعتبر كل تواصل مع شخصية صهيونية جريمة يعاقب عليها القانون، واعتبر (عبر وزير المعارف محمد كرد علي) اللغة العبرية لغة أجنبية.
- وفي عام 1934 اجتمع ديفيد بن غوريون (رئيس الوكالة الصهيونية حينها، وأول رئيس وزراء لإسرائيل لاحقاً) في سويسرا مع الزعيم الحلبي إحسان الجابري، والأمير اللبناني شكيب أرسلان، ورفض الرجلان فكرة قيام دولة على أساس الدين، وأكدا لبن غوريون أن فلسطين لمواطنيها من كل الأديان، ورفضا مجرد مناقشة فكرة الأقلية والأكثرية في فلسطين، ورفضا عروضاً مالية مغرية من بن غوريون.
- وفي عام 1934 حاولت الصهيونية الاتفاق مع الانتداب الفرنسي لشراء أراض في فلسطين تملكها عائلات سورية، ونقل فلسطينيين إلى الجولان السوري. ورفضت فرنسا العرض كيلا تؤجج ثورة السوريين المشتعلة أصلاً ضدها. لكن الصهاينة استمروا في شراء أراض يملكها سوريون في فلسطين، وجاء حاييم وايزمان إلى دمشق عام 1934 ليشتري أرضاً في طبرية تملكها عائلة اليوسف السورية، التي كانت بحاجة لبيع الأرض لسداد دين كبير عليها. فاجتمع وجوه الكتلة الوطنية (القوتلي والأتاسي والجابري ومردم بيك وهنانو والبارودي..) ودفعوا لعائلة اليوسف ما اقترحه عليها وايزمان من ثمن باهظ للأرض.
- وفي عام 1936 تفجرت الثورة المسلحة التي أسس لها الشيخ السوري عز الدين القسام في فلسطين، فتعاطف السوريون معها، جمعوا التبرعات، وقاطعوا البضائع الصهيونية بمبادرة من الصناعي توفيق قباني (والد الشاعر نزار قباني).
وبنفس العام اجتمع الزعيم الدمشقي جميل مردم بيك مع بن غوريون في باريس (رفض الاجتماع معه كل من فارس الخوري وهاشم الأتاسي) ووعده بدعم مطالبه من فرنسا إذا تعامل مع الحركة الصهيونية. فقال مردم بيك: ”إذا صدقت وحصلنا على استقلالنا عن فرنسا، أعدك بإقناع الفلسطينيين بإنهاء الثورة المسلحة والعودة إلى المفاوضات”. ووافق مردم بيك على استقبال وفد صهيوني في دمشق، وترتيب اجتماعات له مع شخصيات سورية نافذة شرط أن يتم ذلك بصورة سرية.
- وفي 17/7/1936 وصل إلى دمشق الصهيوني من أصل سوري، إلياهو ساسون، واجتمع سراً مع الزعيم الدمشقي فخري البارودي مرتين. وفي المرتين سمع ساسون كلاماً قاسياً من البارودي عن الصهيونية التي وصفها بالتنظيم الكريه، وطالبه بطي صفحة الهجرة والوطن القومي في فلسطين.
- وفي 1/8/1936 وصل وفد صهيوني (ضم دوف هوز من مؤسسي عصابات الهاغانا، وموشيه شاريت..) والتقى لأول مرة مع وفد من الكتلة الوطنية ضم شكري القوتلي ولطفي الحفار وفخري البارودي. فرفض الحفار بشدة فكرة الحصول على استقلال سوريا مقابل التنازل عن فلسطين، وهدد بمقاتلة الصهاينة. ورفض البارودي مجدداً ركني الحركة الصهيونية (الهجرة والوطن القومي)، أما شكري القوتلي فقال للوفد: "أنتم مثل الاحتلال الفرنسي، وعلينا محاربتكم جيلاً بعد جيل، ومقاومة مشروعكم، ونحن نعارض فكرة الوطن القومي كما يعارضها الفلسطينيون”. وهدد شاريت بالعمل مع فرنسا ضد استقلال سوريا. ويرى مؤلف الكتاب "سامي مروان مبيض" أن الحركة الصهيونية نفذت تهديدها، وساعدت على إفساد الاتفاقية السورية الفرنسية، وإنهاء الحكم الوطني في سوريا عام 1939.
- ويتوقف الكاتب طويلاً عند علاقة الزعيم الوطني البارز عبد الرحمن الشهبندر مع الصهاينة. فقد اجتمع الشهبندر مع الوكالة الصهيونية عام 1914 في دمشق وأبلغها رفضه الهجرة والوطن القومي، واجتمع مع وايزمان في القاهرة عام 1936 وأبلغه أنه ما زال ضد الهجرة والوطن القومي، لكنه يقبل مكرهاً (بحكم الأمر الواقع) أن الهجرة تمت، ولم يعد أمامه سوى الحد من ضررها بتحديد سقف لنسبة اليهود في فلسطين، قدره بـ 40٪ ليظل العرب أغلبية. واجتمع الشهبندر بوايزمان مرة أخرى عام 1937 في لندن، وعرض عليه استقبال 3 ملايين يهودي إنما في كل الدول العربية وليس فقط في فلسطين، التي لا يجب أن تتجاوز نسبتهم فيها 36٪ من السكان. رحب وايزمان بالفكرة ووعد بعرضها على الوكالة، لكن الشهبندر غرق بالمشاكل الداخلية في سوريا، حتى قتل عام 1940 قبل متابعة الفكرة.
- بعد عام 1938 توجه السياسيون السوريون لوقف الاجتماعات مع الصهاينة، ومقاطعة كل أنشطتهم. فرفض مردم بيك مقابلة بن غوريون مرة أخرى، ورفض سلطان باشا الأطرش لقاء الوكالة، وفي عام 1943 جرت انتخابات في سوريا فاز بها أعداء الصهيونية (شكري القوتلي رئيساً، وفارس الخوري رئيساً للبرلمان، وسعد الله الجابري رئيساً للوزراء).
- وفي عام 1946 استقلت سوريا، وفي عام 1947 صوتت ضد قرار تقسيم فلسطين بإجماع شعبي كبير (باستثناء النائب الحموي حسني البرازي الذي أيد قرار التقسيم)، وتقرر منع بيع أملاك اليهود، وفرض تأشيرة خروج عليهم، وتشكل جيش من المتطوعين العرب لإنقاذ فلسطين بقيادة السوري فوزي القاوقجي، ودخلت سوريا حرب فلسطين عام 1948، ورفضت الاعتراف بدولة إسرائيل، ولم توقع اتفاق الهدنة معها، ورفضت التنازل عن أراض فلسطينية سيطر عليها الجيش السوري في الحرب، وهي في قرار التقسيم تعتبر لإسرائيل (منطقة الحمة).
- وفي عام 1949 حصل أول انقلاب عسكري في سوريا، وحل الضابط حسني الزعيم بالقوة محل الرئيس المنتخب المعادي للصهيونية شكري القوتلي، وكانت إسرائيل أول من اعترف بحسني فعلياً بالتفاوض معه، حيث بدأ مفاوضات هدنة معها (جرى 19 لقاء بين وفدين سوري وإسرائيلي)، وتم تحديد خطوط وقف إطلاق النار، وإقامة منطقة منزوعة السلاح على الحدود، ووقعت اتفاقية الهدنة، واعتبرتها إسرائيل اعترافاً مبكراً بها من قبل سوريا.
ويقول الكاتب، وفق مصادره، إن حسني الزعيم وافق على عقد قمة مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بن غوريون، للوصول إلى اتفاقية سلام تنهي الصراع، وتوطن 300 ألف فلسطيني في سوريا. لكن بن غوريون رفض أن يحصل هذا إلا بعد انسحاب الجيش السوري من الحمة، واكتفى (حسب معلومات الكاتب الشخصية) بإرسال وزير خارجيته موشيه شاريت إلى دمشق للقاء حسني الزعيم.
من جهته نفى شاريت أن يكون التقى حسني الزعيم، لكنه أكد أن الزعيم طلب الاجتماع مع كبار الزعماء الإسرائيليين (بن غوريون أو شاريت) وغضب لأنهم أرسلوا له أشخاصاً أقل منصباً.
وأرسل ساسون (الذي بات مدير الشؤون العربية في وزارة الخارجية الإسرائيلية) رسالة إلى محسن البرازي (الذي بات رئيس حكومة حسني الزعيم) يعرض عليه مفاوضات إسرائيلية سورية غير مباشرة. لكن انقلاباً عسكرياً على الانقلاب العسكري أنهى حكم الزعيم بعد بدايته بـ 5 أشهر فقط، وقتل هو والبرازي.
- وفي عام 1951 جرت اجتماعات بين وفدين سوري وإسرائيلي في إطار لجنة الهدنة الدائمة، لتجنب مواجهة مسلحة بعد إعلان إسرائيل نيتها تجفيف مياه سهل الحولة. ثم حصل اجتماع غاضب بين العقيد أديب الشيشكلي (ذو المواقف المعادية للصهيونية) وضابط إسرائيلي في نفس الإطار.
- وبين عامي 1952 و1954 جرت اجتماعات تقنية ثنائية إسرائيلية سورية (24 جلسة، لم يعلن عنها إلا عام 2001)، لمعالجة قضايا عالقة بين الطرفين.
بثينة الخليل: صحفية سورية