ثورات الإعلام، والثورات الاجتماعية

رياض معسعس - صحفي وإعلامي سوري
الأحد, 2 مايو - 2021
صورة تعبيرية
صورة تعبيرية

الصورة لغة التعبير الأولى لإنسان الكهوف سبقت الكلمة. وهذا ما أكدته كل الاكتشافات في الكهوف القديمة التي كانت جدرانها مساحات مفتوحه يروي على صفحتها مشاهد صيده، أو يعبر عن مآسيه ومخاوفه (كهوف لاسكو في فرنسا، وتميرا في إسبانيا، ويعود تاريخا إلى 30 الف سنة ق.م). هذه اللغة البدائية، كانت بحد ذاتها قطعا فنية نادرة، تطورت فيما بعد لتصبح ما يسمى" لغة تصويرية" فإذا أراد الراوي ان يقول ملكا مثلا رسم تاجا، أو حصانا رسم رأس الحصان، وهكذا.. والتي تشبه إلى حد بعيد الهيروغليفية في عهد الفراعنة مع بعض الرموز الذي يتفق على معناها مسبقا كالشمس مثلا والتي تعبر عن الإله رع. أو الصليب كمفتاح الحياة..

ثورة الحرف

صعوبة الكتابة التصويرية واقتصار قراءتها على مجموعة قليلة من الناس جعل تداولها محصورا في الكهنة، وحاشيات القصور. جاء التطور اللغوي على يد الأوغاريتيين في أوغاريت في شمال سورية عندما اخترعوا اللغة المسمارية التي تطورت لتصل إلى الأبجدية التي تتألف من ثلاثين حرفا وكل حرف يمثل صوتا، ( أبجدية رأس شمرا) والأهم من ذلك هو الجمع بين الحرف والحرف ليعطي كلمة أي يعطي معنى. هذه الثورة كانت بمثابة ثورة اجتماعية كبيرة ذلك أن هذه اللغة باتت في متناول عدد كبير من الناس، وانتشرت المعرفة في منطقة الهلال الخصيب الذي بات أكثر البلاد تقدما في ذاك العصر، وباتت الكتابة أسهل، وتعلمها أيضا فكانت ثورة ثقافية بكل معنى الكلمة كان لها أكبر الأثر على المستوى العالمي. وجعل اليونانيين والفرس يتطلعون إلى السيطرة عليها. فكانوا يطلقون على سكان الساحل السوري من انطاكية وحتى غزة " الفينيقيين" (وليس فقط على جزء من الساحل اللبناني) أي الشعب الأحمر (ذلك أن سكان المنطقة كانت ألبستهم تصبغ باللون الأحمر او الارجواني كما نرى اليوم مثلا في الخليج اللباس الأبيض). وقد استفادوا من التقدم الحضاري بالاحتكاك معهم والذي انتهى بسيطرتهم على البلاد بعد حملات إسكندر المقدوني.

ثورة المطبعة

مع تطور اللغات الأبجدية وتنوعها ومنها بالطبع العربية وليدة اللغات السامية وأكثرها انتشارا. أصبح التواصل بين أفراد المجتمع، وبين الشعوب أكثر اتساعا، وانتشرت المدارس لتعلمها وتداولها في الشؤون الإدارية والتجارية والتعليمية، لكن الكتابة بقيت مخطوطات يقوم على نسخها النساخون. أوربا وبعد الحروب الصليبية والعصور الوسطى بدأت تدخل رويدا في عصر النهضة، ففي منتصف القرن الخامس عشر قام الألماني يوهان غوتنبرغ باختراع المطبعة، أي الحرف المتحرك. ( حروف تصب في قوالب معدنية) ويتم تنضيدها حسب النص المطلوب، ثم تبدأ عملية الطبع ( بدل النسخ)، وهذا يعني صار بالإمكان طبع آلاف النسخ من نفس النص بمدة زمنية قصيرة، وبحروف واضحة دون الوقوع في أخطاء النساخين، وعدم إمكانية قراءة بعض الخطوط. هذه المطبعة رغم بدائيتها أحدثت ثورة كبيرة في عالم نشر المعرفة عبر طباعة الكتب بكميات كبيرة فباتت بمتناول الطبقات الشعبية الفقيرة التي بدأت بفضل تدرجها في معارج المعرفة والعلم أن ترتفع في طبقات المجتمع، وتشكيل ما يسمى اليوم بالطبقة الوسطى العريضة. وبالطبع كانت ثورة كبيرة أيضا على جميع الأصعدة العلمية والاقتصادية والتجارية. لكن لم تخل من انتقادات وتهجم النساخين ورجال الدين الذين دانوا الآلة الجديدة معتبرين أن طباعة الكتب المقدسة بها محرم ويغضب الذات الإلهية. ( وهذا أيضا ما واجهته مطبعة نابليون في مصر التي تحولت فيما بعد إلى مطبعة بولاق). وكان أول وليد لهذه المطبعة الذي أصبح في متناول كل يد: الصحيفة.

 ثورة الأقمار الاصطناعية والحواسيب

مع تطور العلوم والمجتمعات والدخول في الثورات الصناعية في أوربا، كان التطور أيضا يشمل وسائل الاتصال فتم اختراع الراديو، ثم التلفزيون في النصف الأول من القرن العشرين. لكن الثورة الحقيقية التي تحققت في ستينيات القرن الماضي وهي تقنية الأقمار الاصطناعية، والحاسوب والتزاوج بينهما والتي حققت حلم كاتب الخيال العلمي الشهير ارثر كلارك بتغطية إخبارية على كامل الكرة الأرضية بإرسال ثلاثة أقمار اصطناعية على المدار الثابت ( على مسافة 36500 كم) من الأرض موجه كل منها على ثلث الكرة الأرضية. وهذا ما تم فعليا وباتت الألعاب الأولمبية، وكأس العالم لكرة القدم، والأحداث الكبرى يمكن مشاهدتها مباشرة من قبل عدة مليارات من البشر حول العالم. هذه التقنية الجديدة كانت ثورة كبيرة في عالم الاتصال، وعلى مستوى المجتمع والتي جعلت من الكرة الأرضية قرية صغيرة كما وصفها العالم الكندي ماك لوهان.

ثورة الإنترنت

آخر ثورة في عالم الإعلام والاتصال ( ولن تكون الأخيرة) هي اختراع الانترنيت من قبل (فينتون سيرف، وبوب خان) هذا الاختراع الذي ظهر إلى الوجود في بداية تسعينيات القرن الماضي قلب المفاهيم الإعلامية، وأحدث ثورة كبيرة جعلت "المستقبل" أن يصبح مرسلا ( منتجا)، فمن نتائجها نشوء محركات البحث، وتطبيقات عديدة لوسائل التواصل الاجتماعي التي شكلت بدورها ما أصطلح على تسميته بالإعلام الأفقي، أي بين أفراد المجتمع، وباتت هذه الوسائل سلطة إعلامية جديدة في مواجهة السلطة الإعلامية القديمة. بل إنها حرضت المجتمعات على الثورات ( الربيع العربي). والدعوة لتشكيل مجموعات ضغط سياسي واجتماعي. وبعودة زمنية للوراء نرى أن ما حققه الانسان خلال ثلاثين الف عام من التطور الإعلامي لا يساوى ما تم تحقيقه خلال القرن العشرين( وبداية الواحد والعشرين) الذي يعتبر قرن الثورة الإعلامية الكبرى دون منازع. والبقية تأتي.