في تحدٍ صريح لجدران السجن العازلة وقيود الاحتلال، نجحت رواية "قناع بلون السماء" للكاتب الأسير الفلسطيني باسم قندقجي في تحقيق إنجاز أدبي استثنائي. هذا العمل، الذي أُبدع خلف القضبان، لم يكتفِ بالتعبير عن عمق التجربة الفلسطينية وحسب، بل استطاع أن يعبر الحدود ليصل إلى العالمية، متوجًا بـ الجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) لعام 2024.
إن فوز قندقجي بهذه الجائزة لم يكن مجرد تكريم لعمل أدبي متقن، بل كان انتصارًا لقضية الأسرى وصوتهم الذي أصر على بلوغ منصات التتويج، مؤكدًا على أن إرادة الكلمة وقوتها لا يمكن حجزها مهما كانت الأسوار عالية. تستعرض الرواية بعمق محنة الهوية والصمود، مقدمةً حكاية تجاوزت محليتها لتقدم نموذجًا عالميًا في الإبداع من قلب العزل.
القناع الأزرق وصراع "نور"
تغوص الرواية في عمق التجربة الفلسطينية، مقدمةً شخصية "نور"، الباحث الأكاديمي الفلسطيني، الذي يتخذ قرارًا وجوديًا محفوفًا بالمخاطر: التخفي بهوية شخص إسرائيلي متوفى يُدعى "أوري".
هذا التقمص يفرض على نور ارتداء "القناع الأزرق"، في إشارة رمزية واضحة إلى بطاقة الهوية الإسرائيلية (الهوية الزرقاء)، التي تُعتبر المفتاح للعبور والحركة في القدس والأراضي المحتلة، بينما يُحرم منها الفلسطينيون. يتحول جسد نور إلى ساحة صراع:
- صراع الهوية: بين ذاته الفلسطينية المستترة وهويته القسرية المتمثلة في القناع الإسرائيلي.
- الغاية النبيلة: استخدام هذا القناع للوصول إلى مكتبة جامعية في القدس لإجراء بحثه عن "الشاهِد" (الوثائق والشهادات التاريخية)، ليصبح بذلك البحث الأكاديمي فعل مقاومة ثقافية ضد محاولات طمس التاريخ الفلسطيني.
"قناع بلون السماء" تُسلط الضوء ببراعة على فكرة الاغتراب والعزلة؛ فالكاتب يصور كيف أن هذا القناع، الذي يُفترض أن يمنحه حرية الحركة، يجعله أكثر وحدة وعرضة للانكشاف، مما يعمق الفجوة بين المكان الذي ينتمي إليه والهوية التي أُجبر على ارتدائها.
أهمية الجائزة: صوت من خلف القضبان
إن فوز "قناع بلون السماء" يحمل أهمية تتجاوز الإطار الأدبي:
- اعتراف بـ "أدب الأسر": منح الجائزة لكاتب أسير محكوم بالمؤبد هو اعتراف غير مسبوق بالإنتاج الأدبي الذي يخرج من زنازين الاحتلال، مما يسلط الضوء على صمود الأسرى الفكري والثقافي.
- قضية الهوية الفلسطينية: الفوز يطرح وضع قضايا الهوية القسرية، والاغتراب، ومعضلة الوصول إلى المعرفة، ويضعه في صلب الاهتمام الأدبي العالمي.
- انتصار للكلمة: أثبت الفوز أن الكلمة يمكن أن تعبر الحدود والجدران، وأن الرسالة الإنسانية والسياسية العميقة تصل رغم كل القيود.
من هو الكاتب باسم قندقجي؟
باسم قندقجي (مواليد 1983، نابلس) برز كرمز للصمود الأدبي والفكري.فقد اُعتقل في عام 2004 وحُكم عليه بالسجن المؤبد ثلاث مرات بتهمة مقاومة الاحتلال.
لم تُوقفه أسوار السجن عن ممارسة شغفه بالمعرفة والكتابة. فقد استغل قندقجي فترة أسره للحصول على درجتي البكالوريوس والماجستير في العلوم السياسية والدراسات الإسرائيلية عن بُعد من جامعة القدس المفتوحة.
تعتبر "قناع بلون السماء" أحدث إنجازاته الأدبية، وتأتي بعد أعمال سابقة كتبها من داخل سجنه، مثل: كتاب "نرجس العزلة"، ورواية "خلف الشبابيك"، ومجموعة قصصية "أنفاس قصيدة الليل".
إن فوز قندقجي بالجائزة العالمية للرواية العربية هو شهادة على أن إرادة الكاتب الفلسطيني لا تُقهر، وأن أدبه سيظل مرآة تعكس صراع شعبه من أجل الحرية والهوية.