أجسادٌ نحيلة أنهكها الجوع، ووجوهٌ مُتعَبة تتنقل بين أكوام القمامة. طفلٌ ينبش في جوفها بحثًا عن قطعة معدن أو بلاستيك، وآخر يُدخل رأسه في حاويةٍ بحثًا عن قوته: عن قطعة فاكهة أهملها أحدهم، أو قطعة حلوى، أو كسرة خبز.
هذا هو حال الكثير من الأطفال المشردين المنتشرين بين حاويات القمامة ومكباتها في الشوارع والأزقة.

تُعدّ فئة الأطفال أكثر الفئات تأثرًا بالحرب في سوريا خلال السنوات الماضية، إذ خلّفت نتائج ثقيلة على النشء الجديد، بفقدان الرعاية الأسرية والتعليمية، وتعرّض الكثير منهم لاضطرابات نفسية نتيجة العنف والنزوح وفقدان أحد الوالدين أو كليهما، ما اضطر الكثير منهم إلى الانخراط في سوق العمل لإعالة أسرهم، فيما واجه آخرون مخاطر الاستغلال والتجنيد والاتجار بالبشر.
لقد أصبحت النفايات المنتشرة في كل شوارع وأحياء دمشق، القديمة منها والحديثة، مكان عمل للأطفال وجامعي المواد البلاستيكية القابلة للتدوير. وقد بات هذا المشهد شبه يومي، حتى إن مكبات النفايات كادت تخلو من القطط والكلاب، وأصبحت تعجّ بالأطفال الذين استبدلوا المدارس والملاعب بهذه الأماكن.

وفي جولةٍ استقصائية لـ“السوري اليوم” زرنا هذه الأماكن.
اقتربنا من أحد الأطفال وكان يعبث بلعبة مكسورة. سألته: ماذا ستفعل بها؟ فنظر إليّ بعيون خائفة وأجاب كأنه يخشى أن آخذها منه:
"أنا وجدتها وهي لي... سأخذها لأخي محمد، سيفرح بها".
وفي شارع آخر شاهدنا طفلًا يأكل من رمانة عثر عليها في حاوية القمامة. كان يأكلها بسرعة وكأنه يخشى أن يشاركه أحد بها. باتت هذه المشاهد متكررة على مرأى الجميع، وأمام عدسات المتطفلين أو دهشة البعض.

وقبل أن نغادر منطقة البرامكة، التقيتُ طفلًا في كراج السومرية يبيع العلكة. سألته: هل تذهب إلى المدرسة؟
أجاب: "هل هناك مدرسة؟"
قلت: نعم.
نظر إليّ بحزن وقال: "أتمنى أن أتعلم في المدرسة… هل أستطيع ذلك؟"
قلت: نعم.
قال: "متى؟"
لم أستطع الإجابة، لأن الأمر يتعلق بعائلته ومصاريف المدرسة التي تتجنبها الأسرة، وتدفع بالطفل إلى العمل. وعدته بالعودة، وما زالت عيناه تتابعانني وأنا أندسّ بين الركاب الصاعدين إلى السرفيس.
تُعدّ عمالة الأطفال ظاهرةً منتشرة في الدول الفقيرة والمتوسطة الدخل، وهي من الظواهر التي تسعى الأمم المتحدة لمكافحتها. وكان من أهداف التنمية المستدامة لعام 2015 القضاء عليها نهائيًا.
تقول سفيرة اليونسكو أحلام مستغانمي:
"تعليم الأطفال ضحايا الحروب والفقر والظلم هو القضية الكبرى التي يبدأ بها مشروع إنقاذ المستقبل: مستقبل الأفراد كما مستقبل الأوطان. أطفال لم يملكوا يومًا لعبة، كانوا لعبة الكبار؛ لعبة ربما تحولت إلى عبء كبير على الدولة والمجتمع."
وقد حدّدت منظمة الأمم المتحدة يوم 12 يونيو/حزيران من كل عام ليكون اليوم العالمي لمكافحة عمالة الأطفال، بمشاركة الحكومات ومنظمات المجتمع المدني، للتنبيه إلى ضرورة مكافحة هذه الظاهرة.
وفي اليوم العالمي للطفولة لم يُغفل القانون الدولي حقوق الأطفال الأيتام، إذ تضمن إعلان حقوق الطفل (إعلان جنيف 1924) خمسة مبادئ أساسية، أشار في ثانيها إلى حالة الطفل اليتيم، مؤكدًا أن: "اليتيم والمهجور يجب إيواؤهما وإنقاذهما."
شكّل هذا الإعلان نقطة انطلاق للمسؤولية الجماعية للمجتمع الدولي تجاه الأطفال الذين حُرموا من أسرهم. وعززت اتفاقية جنيف الرابعة (1949) هذه المسؤولية، مؤكدةً في المادة (50) حماية الأطفال الأيتام في أوقات الحروب والنزاعات، وإلزام الدول بتأمين إعالتهم وتعليمهم في حال عدم وجود قريب أو صديق يرعاهم.
يُقدّر تقرير أن 138 مليون طفل كانوا يعملون في عام 2024، من بينهم حوالي 54 مليونًا في أعمال خطرة قد تعرّض صحتهم أو سلامتهم أو نموهم للخطر، وذلك بانخفاض قدره 22 مليون طفل عن عام 2020، ولا يزالون منخرطين في عمالة الأطفال.
كما أن هناك اتفاقيتين أصدرتهما منظمة العمل الدولية، من بينها الاتفاقية رقم 182 الخاصة بأسوأ أشكال عمل الأطفال، وتُلزم هذه الاتفاقيات الدول الأعضاء بحظر استغلال الأطفال وضمان حقوقهم في التعليم والحماية. وتسنّ معظم الدول العربية قوانين خاصة لتطبيق هذه الاتفاقيات، من بينها مصر والمغرب وتونس، إذ تحدد القوانين منع تشغيل الأطفال دون سن السادسة عشرة، وضرورة توفير بيئة عمل صحية وآمنة، وفرض عقوبات على المخالفين.
أما بخصوص الوضع اليوم، فإن حضور وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل هند قبوات إلى جانب وفد اليونيسف يؤكد التزام الدولة بتأمين المساحات الآمنة للأطفال ودعم البرامج التي تضمن لهم بيئة تحميهم وتنمي قدراتهم. لم تكن الاجتماعات مجرد بروتوكولات سياسية، بل محطات أساسية لوضع خطط مشتركة تُترجم على الأرض بخدمات أفضل واستجابة أسرع ورؤية أوضح لحماية الطفل في سوريا.
وفي السياق ذاته، افتتحت الوزيرة هند قبوات مركز الأحداث في محافظة طرطوس بعد إعادة تأهيله وتنظيفه، ليباشر بتقديم خدمات الرعاية الاجتماعية والنفسية والصحية للأطفال والفتيان دون سن 18 عامًا.
وعلى الرغم من إعلان الوزيرة بناء مراكز إيواء ومتابعة هذه الحالات، إلا أن المشهد لم يتغيّر، وما يزال يحتاج إلى جهود أكبر من الحكومة. فإقامة المراكز وحدها لا تكفي، بل يجب مساعدة الأسر التي تدفع أبناءها للعمل وترك التعليم، وتأمين تعليم مهني ومجاني لهؤلاء الأطفال، إذ إن الكثير منهم تجاوز سن التعليم الابتدائي. كما يجب فتح معاهد للتعليم والتدريب المهني للمتسربين من المدارس لإعادتهم إلى مقاعد الدراسة، وجعل التعليم مجانيًا وإلزاميًا.
لذا، يتوجب على الحكومة والجهات المعنية تعزيز شبكات الحماية الاجتماعية، وتأمين الرعاية التربوية والصحية والنفسية للأطفال والفئات الأكثر هشاشة في المجتمع، بهدف دمجهم وتمكينهم من ممارسة حياتهم بشكل طبيعي وآمن.