تشكل العشائر جزءاً كبيراً من النسيج الاجتماعي في سوريا، إذ تشير التقديرات إلى أن ما بين 60% و70% من السوريين ينتمون إلى عشيرة أو قبيلة. وعلى الرغم من النمو الحضري، لا تزال الروابط العشائرية فاعلة بين ملايين السوريين في الريف والمدينة. وقد برز هذا الثقل المجتمعي للعشائر مع اندلاع الثورة عام 2011، فلا يغيب عن الأذهان أن الشرارة الأولى انطلقت في محافظة درعا ذات الطابع العشائري. وكان للعشائر دور واضح في الانتفاضة ضد الحكم الاستبدادي، خاصة في المناطق التي عانت من التهميش الاقتصادي كدير الزور والرقة وحلب وإدلب والحسكة وحمص وحماه، والتي تفاقمت مع موجات الجفاف وانهيار الزراعة قبل الثورة. هذا الواقع من الإقصاء التنموي ولد احتقاناً شعبياً واسعاً سهل انتشار الثورة أفقيا في أغلب المدن والمناطق في البلاد.
في المقابل، حاول النظام البائد منذ البداية استمالة العشائر أو تحييدها لضبط الأوضاع، لكن التطورات أثبتت أن الولاءات التقليدية خرجت عن سيطرته، وتركت بصمتها على مجريات الواقع. فقد اندفع أبناء العشائر إلى صفوف التظاهرات إلى صفوف المعارضة المسلحة. كثير من العسكريين المنشقين عن النظام آنذاك كانوا من خلفيات عشائرية، مما رفد الجيش السوري الحر بفئات مقاتلة لها قواعد اجتماعية متينة. وفي الوقت نفسه، كان النظام قد انتهج سياسات براغماتية لضمان ولاء زعماء القبائل، فجعل الولاءات العشائرية جزءاً من معادلته السلطوية. همّش دور الشيوخ التقليديين، وعمد إلى استبدالهم بأشخاص موالين وأعطاهم مناصب في المؤسسات الأمنية والمدنية. كما حرص على زيادة تمثيل الشخصيات العشائرية الموالية في مجلس الشعب، إذ وصلت نسبة تكثيل النواب العشائريين إلى نحو نحو 12 بالمئة، لكن تلك المحاولات لدمج العشائر في بنية النظام لم تمنع نقمة الشارع العشائري عند اندلاع الثورة. وقد سعى نظام الأسد مراراً إلى تهدئة العشائر، فقام بزيارة مدينة الرقة في حزيران 2011 واجتمع مع وجهاء العشائر هناك، داعياً إياهم للوقوف إلى جانبه مقابل وعود بالدعم، لكن الرقة كانت أول محافظة تتحرر من النظام عام 2013.
ومع تصاعد عسكرة الثورة، انخرط أبناء القبائل في فصائل متباينة. سعت جميع الأطراف إلى استقطاب العشائر إلى صفها. وأدركت قوات سوريا الديمقراطية قسد أنها لا تستطيع دحر تنظيم داعش دون كسب دعم القبائل العربية، فعقدت تحالفات مع عشائر الرقة ودير الزور والحسكة، كما أنشأت مجالس صلح عشائرية محلية. من جهة أخرى، أدركت تركيا كذلك أهمية دور العشائر، فاستضافت في أعزاز اجتماعاً موسعاً لوجهاء العشائر عام 2017، وانبثق عنه المجلس الأعلى للقبائل والعشائر السورية الذي امتد نفوذه على المناطق التي يسيطر عليها الجيش الوطني في المناطق المحررة آنذاك، دعماً للثورة وضد نفوذ قسد، إلى جانب مجالس أخرى للعشائر في إدلب ودير الزور وغيرها.
ورغم كل التحديات، لا يمكن تجاهل استمرار الثقل المجتمعي للعشائر في رحلة بناء سوريا الجديدة، إذ يمكن أن تكون أداة لترميم النسيج الوطني وتحقيق السلم الأهلي. تاريخياً، تمتعت القبائل بأعراف لحل النزاعات ووأد الثأر عبر مجالس الصلح والدية. هذه العدالة العشائرية قد تساهم في رأب الصدع بعد الحرب وامتصاص نزعات الانتقام، خاصة في المناطق التي تفتقر لقوة المؤسسات وخاصة القضائية. ففي العراق مثلاً، استعانت الحكومة بشيوخ العشائر لترتيب عودة النازحين وتسهيل المصالحات، وعندما تتنازل العائلة عن الحق الشخصي بعد صلح عشائري، تأخذ المحاكم ذلك بالاعتبار وتخفف الأحكام. لكن ترك الأعراف بلا تنظيم قانوني يشكل خطراً على سيادة الدولة.
أما في الأردن، فلا تزال العطوة والصلح العشائري تمارس بدعم من الحكام الإداريين، ويفرض أحياناً نفي أقارب الجاني، المعروف بـالجلوة، كإجراء وقائي. يثير هذا الأمر الجدل بين من يعتبره علاجاً اجتماعياً، ومن يرى فيه تقويضاً للقانون. ومع ذلك، سعت الدولة الأردنية لمأسسة العلاقة مع العشائر عبر ديوان العشائر في الديوان الملكي ودمجهم في مؤسسات الحكم، وهو ما جعل الولاء العشائري يساهم في خدمة الاستقرار الوطني.
وتجربتا الأردن والعراق توحيان بأن العشائر يمكن أن تكون عنصر استقرار إذا ما تم إشراكها بنيوياً، أو مصدر إرباك إن همّشت أو تركت دون ضوابط. وبناء سوريا ما بعد الثورة على أسس حديثة يتطلب التوفيق بين دولة القانون والهويات التقليدية في المجتمع. وفي حالة العشائر، يعني ذلك تمكينها إيجابياً ضمن إطار الدولة مقابل التزامها بالخضوع لسيادة القانون. فلا ينبغي تكرار أخطاء النظام السابق في استغلال العشائر للهيمنة أو تهميشها واستعدائها. بدلاً من ذلك، إدماجها كشريك في الحكم المحلي والمصالحة الوطنية والتنمية المستدامة.
وفي هذا الإطار، يمكن النظر إلى افتتاح مكتب مجلس القبائل والعشائر في حلب بوصفه تطوراً لافتاً ومحطة أولى في مسار بناء شراكة مؤسسية بين الدولة الجديدة ومكوّناتها الاجتماعية، وعلى رأسها العشائر، بما يرسخ دورهم في صياغة مستقبل سوريا الجديدة. ويمكن تحقيق هذا الإدماج عبر عدة خطوات وسياسات، منها مأسسة دور العشائر عبر إنشاء مجالس صلح أهلية مدعومة حكومياً، تضم شيوخ العشائر إلى جانب وجهاء لتتولى حل النزاعات المدنية والجزائية البسيطة على الطريقة العشائرية ولكن تحت مظلة القانون. مثل هذه المجالس يمكن أن تساهم في تخفيف العبء عن القضاء الرسمي وحل القضايا بسرعة ومرونة، مع ضمان عدم تجاوزها لحقوق الأفراد الدستورية. وقد تكون تجربة العراق في إشراك وجهاء العشائر في لجان المصالحة وإعادة الدمج مفيدة للاقتباس.
كذلك من المهم تشجيع التمثيل السياسي المنظم للعشائر، عبر تشكيل تجمعات ذات مرجعية عشائرية على أسس برامج تنموية، بما يضمن مشاركة أبناء القبائل في الحياة السياسية بشكل حديث، كمجالس الأعيان. إذا جرى تأطير هذا الثقل بشكل سليم، يمكن أن تصبح القبائل حصناً للوحدة الوطنية بدلاً من أن تكون سبباً في انقسامها. ويرى بعض الخبراء أن العشائر قد تكون عاملاً فعالاً في جمع المتناقضات والتواصل مع جميع الأطراف، نظراً لما يمتلكه وجهاؤها من كفاءة تواصلية عالية وقدرة على مخاطبة مختلف المكونات. لذا يمكن للقوى العشائرية أن تكون أحد أركان التعددية في سوريا الجديدة، بشرط تنظيم دورها ضمن أطر مدنية.
كما أن التمكين الاقتصادي والتنموي للعشائر أمر ضروري. يمكن دعم مبادرات محلية تقودها العشائر لإعادة إعمار مناطقها وتنميتها. لدى القبائل تقاليد راسخة في التكافل الاجتماعي وجمع الديات والتبرعات لحل الأزمات داخل مجتمعهم. يمكن توظيف هذه الثقافة إيجابياً عبر إنشاء صناديق تنمية محلية تشرف عليها شخصيات عشائرية موثوقة بالتنسيق مع الدولة، لتمويل مشاريع إعادة الإعمار والبنى التحتية والخدمات في المناطق الريفية المدمرة. مثل هذا التعاون سيعزز ثقة الأهالي بالسلطة الجديدة ويشعرهم بأنهم جزءاً من عملية البناء، وفي الوقت نفسه يحد من أي نزعات لاستغلال الفراغ من قبل قوى خارج إطار الدولة.
ينبغي كذلك اعتماد إصلاحات قانونية تراعي الخصوصية العشائرية. ومن المنتظر سن تشريعات حديثة تدخل في الحسبان بعض الأعراف الإيجابية كالصلح العشائري ضمن سياق قانوني واضح، لمنع التضارب بين الأحكام العرفية وأحكام الدولة. على سبيل المثال، حل إشكاليات المنازعات العقارية وخاصة ملية الشيوع. أيضاً يمكن تعديل قانون العقوبات بحيث يعطي مساحة للقضاة لاحتساب إسقاط الحق الشخصي الناتج عن الصلح العشائري ضمن حيثيات الحكم، من غير إفلات كلي من العقوبة إذا كان الجرم خطيراً يمس الحق العام. مثل هذه الخطوات تعزز التكامل بين النظامين الرسمي والعشائري بدلاً من تناقضهما.
وبهذه التشريعات المرنة تجعل من العشائر السورية عنصراً مؤثراً في المسار السياسي لا يمكن تجاهله في رسم مستقبل البلاد. وإن تحويلها من ولاءات ما قبل الدولة إلى مكوّن فاعل في بناء دولة المواطنة والقانون يتطلب رؤية شاملة ومنفتحة. فالتجارب المجاورة تظهر إمكانية تحقيق ذلك عبر إشراك القبائل في مؤسسات الحكم وضبط أعرافها تحت سقف القانون. تمتلك الممارسات العشائرية إمكانات للمساهمة في تحسين الحوكمة وإدارة العدالة إذا اقترنت بإصلاحات تحد من إساءة استخدامها. وسوريا الجديدة بحاجة لكل أبنائها، والعشائر بما لها من انتشار جغرافي وتماسك اجتماعي قادرة على أن تكون جسراً لإعادة اللحمة الوطنية والتسريع بالمصالحة وبناء السلم الأهلي. بهذه الطريقة فقط يمكننا الاستفادة من طاقات العشائر الهائلة بشكل بناء، وضمان ألا تكون القبيلة فوق الدولة ولا الدولة ضد العشيرة، بل كلاهما في خدمة استقرار وازدهار المجتمع السوري ككل.