الأمير سعيد الجزائري، ذو الأصل الجزائري والتربية الدمشقية، ظل شخصية مغمورة في صفحات التاريخ رغم دوره الكبير. هذا الأمير، الذي حمل اسماً يثقل بالمسؤولية، كان حفيد الأمير عبد القادر الجزائري، البطل الذي قاوم الاستعمار الفرنسي في الجزائر.
نشأ الأمير سعيد في دمشق، بعيداً عن موطن أجداده، لكنه لم ينسَ يوماً إرث عائلته ومع مرور السنين، برز كقائد لا يقل شجاعة وتأثيراً عن جده . ورغم أن التاريخ لم يمنحه الاهتمام الذي يستحقه، فإن بصماته واضحة في تاريخ سوريا.
بعد دخول القوات العربية والبريطانية إلى دمشق عام 1918، في أعقاب انهيار الحكم العثماني، برز الأمير سعيد الجزائري كحامي للمدينة في لحظة حرجة. دور الحفيد لم يكن أقل أهمية من دور جده ، حيث وقف في وجه الفوضى التي كانت تهدد دمشق بالنهب والحرائق.
أطلق الأمير سلسلة من المبادرات، ساعياً للحفاظ على الأمن والنظام وسط الاضطرابات، بفضل جهوده تمكن من تحقيق انتقال سلمي من الحكم العثماني إلى الحكم العربي الهاشمي، في وقت كانت المدينة على شفا السقوط في أيدي الحلفاء.
في مذكراته، كتب الأمير سعيد عن تلك الأيام العصيبة: "الأهالي ينتظرون سقوط المدينة بأيدي الحلفاء في أي لحظة." لكن، بفضل عزيمته وشجاعته، نجح في حماية دمشق من مصير مجهول.
وُلد سعيد الجزائري في دمشق عام 1883، في نفس العام الذي رحل فيه جده عبد القادر الجزائري وهو الذي أطلق على حفيده اسم "محمد سعيد" تيمناً بأمل متجدد في النضال والحرية.
نشأ الأمير بين قصص بطولات جده، التي كانت تُروى في مجالس العائلة، وترسخت في قلبه روح المقاومة والشجاعة. تلك القصص لم تكن مجرد حكايات، بل كانت دافعاً للأمير الشاب ليتبع خطى جده، ويسعى للاستفادة من سمعته لتحقيق مكاسب سياسية واجتماعية.
جاءت فرصته الكبرى في سبتمبر 1918، عندما بدأ القناصل الأجانب في مغادرة دمشق، محذرين من احتمال أن تغرق المدينة في فوضى شاملة. في ذلك الوقت الحرج، نهض الأمير سعيد ليحمل إرث جده بين يديه، مدركاً أن عليه أن يكون الحامي لدمشق، المدينة التي أحبها.
حامي دمشق والأقليات في زمن الفوضى
عندما أدرك جمال باشا الصغير حاكم دمشق العثماني، أن التفاوض مع الحلفاء بات مستحيلاً، قرر أن يتخذ خطوات غير تقليدية لضمان سلامة جيشه أثناء انسحابه من المدينة التي كانت تغرق في الفوضى. أدرك أن الفرصة الأخيرة للنجاة تكمن في التواصل مع وجهاء المدينة، حيث أمل أن يحصل على ضمانات لحماية قواته.
في تلك اللحظة الحرجة، كانت معظم علاقاته المقربة إما في المعتقلات، أو في المنفى، أو مجندين في صفوف جيش الشريف حسين بن علي. حتى أقرب أصدقائه، أمير الحج الدمشقي عبد الرحمن باشا اليوسف ومحمد فوزي باشا العظم، كانا في إسطنبول بعيدين عن متناول اليد.
في ظل هذه الظروف القاسية، كان جمال باشا يواجه تحدياً مضاعفاً، تأمين انسحاب منظم في ظل انهيار كل ما حوله، مما أضاف طبقة أخرى من التعقيد إلى موقفه الذي كان يتطلب كل مهاراته الدبلوماسية والبقاء على قيد الحياة في مدينة تغلي بالأحداث.
الأمير سعيد وحماية دمشق..
في مواجهة الوضع الحرج الذي شهدته دمشق، طلب جمال باشا الصغير العون من الأمير سعيد الجزائري. أدرك الأمير أن الحل يكمن في إشراك الأهالي في عملية حفظ الأمن، مستلهماً من تجربة باريس خلال ثورة 1789. قدّم الأمير سعيد اقتراحه بتشكيل "حرس وطني" من سكان المدينة لحمايتها من الفوضى المحتملة.
أكد الأمير سعيد قائلاً: "إنني، كجدي عبد القادر العظيم، أرغب في الحفاظ على الأرواح، ومنع الاعتداء على النساء والأطفال، والتصدي لأعمال النهب والسلب، والحفاظ على الأمن بين الطوائف المختلفة."
بدأ الأمير سعيد بتنفيذ خطته على الفور. أرسل مجموعتين من رجاله إلى مواقع استراتيجية في المدينة. تمركزت المجموعة الأولى في حي الشاغور جنوب دمشق، لحماية سكانه من الطائفتين الشيعية والموسوية اليهودية. أما المجموعات الأخرى، فقد شملت مناطق حساسة مثل الميدان، باب شرقي، باب توما، القصاع، وحي الأكراد الذي يقع على سفح جبل قاسيون.
كما توجهت مجموعة كبيرة إلى حي الصالحية والمهاجرين، بينما تم إرسال مجموعة أخرى لتأمين وسط المدينة، بدءاً من حي باب الجابية وسوق مدحت باشا والحميدية، وصولاً إلى ساحة المرجة وحي عرنوس خارج أسوار المدينة القديمة.
بفضل تنظيمه وتخطيطه، نجح الأمير سعيد في حماية دمشق من الفوضى، مؤكداً على روح القيادة والالتزام الذي ميز عائلته على مر العصور.
الأمير سعيد الجزائري: أول حاكم عربي مستقل لدمشق
على الضفة الجنوبية لنهر بردى، خلف مبنى البلدية، ارتفع مبنى السراي أو دار الحكومة يستعد لاستقبال فصلاً جديداً من تاريخ دمشق. دخل الأمير سعيد الجزائري برفقة ثلاثة من أقاربه إلى المبنى، ليجدوه خالياً تماماً. كانت الغرف هادئة، خالية من أي حركة، بعد أن غادرها الموظفون العثمانيون حاملين معهم كافة الأوراق الرسمية والأختام الحكومية.
لم يواجه الأمير سعيد أي مقاومة أثناء صعوده الدرج العريض المزين بسجادة التشريفات الحمراء، الذي قاده إلى الطابق العلوي. هناك، في مكتب والي الشام الذي كان يشغله سابقاً حسن ناظم باشا وجمال باشا، وقف الأمير سعيد لحظة حاسمة. كانت تلك اللحظة تجسد التغيير الكبير الذي شهدته المدينة، حيث أصبح المبنى رمزاً للانتقال من الحكم العثماني إلى فجر جديد تحت الإدارة العربية.
في هذا المكتب، الذي شهد قرارات هامة وأحداث تاريخية، بدأ الأمير سعيد مهمته الجديدة، متطلعاً إلى المستقبل وهو يعلم أن دمشق، المدينة العريقة، تستعد للمرحلة التالية من تاريخها .
في لحظة مفصلية من تاريخ دمشق، دخل الأمير إلى مبنى السراي، ليجد مقعد الوالي فارغاً. دون تردد، جلس عليه، معلناً نفسه كأول حاكم عربي مستقل لولاية الشام. قائلاً بثقة: "اعتبرت نفسي مسؤولاً عن دمشق"، أرسى الأمير بداية جديدة للمدينة التي عانت طويلاً من الحكم العثماني.
كانت أولى خطوات الأمير سعيد رمزية لكنها حاسمة. أمر بتغيير اسم جريدة "الشرق"، التي كانت تصدرها السلطات العثمانية، إلى "الاستقلال العربي"، في خطوة تعكس عزم الحاكم الجديد على بناء هوية عربية مستقلة. ومع ذلك، لم تدم الحياة لجريدته سوى عدد واحد.
ثم توجه إلى ترتيب أوضاع المدينة، فطلب من صديقه الصحافي معروف أرناؤوط أن يجلب راية الثورة العربية من منزله في حي العمارة، الذي شهد أحداث عام 1860. كانت الراية، التي أصبحت لاحقاً علم المملكة الأردنية الهاشمية، رمزاً للتغيير الكبير. وقد اختلف المؤرخون حول مصممها، لكن الثابت أن رفعها كان علامة فارقة في تاريخ دمشق.
بعد رفع العلم، دعا الأمير سعيد صديقه المحامي فارس الخوري، النائب المسيحي السابق في مجلس النواب العثماني، لإلقاء خطاب أمام الحشود المتجمعة أمام دار الحكومة. وبذلك، أكدت المدينة وحدة شعبها وتطلعاتها نحو المستقبل.
في اليوم التالي، أقيمت صلاة الجمعة في الجامع الأموي الكبير بدمشق، تحت إمامة الأمير سعيد نفسه. كان هذا الحدث، الذي جمع المصلين تحت الراية الجديدة، تجسيداً للفصل الجديد في تاريخ دمشق، حيث تجلى التحول من الحكم العثماني إلى الاستقلال العربي بشكل كامل.
تحديات الأمير سعيد الجزائري: صمود في وجه الفتن والاعتداءات
كان عهد الأمير سعيد الجزائري في دمشق فترةً مليئةً بالتحديات والصراعات، إذ كانت المدينة تعاني من موجات متلاحقة من الفتن والاعتداءات. رغم الأوضاع المضطربة التي عصفت بالمدينة، حيث أثبت صموداً نادراً في مواجهة الأزمات التي اجتاحت دمشق.
كانت المدينة في خضم فترة من الفوضى، حيث تسببت النزاعات في تهديد استقرارها وأمن سكانها. الشوارع التي كانت يوماً ما مهد الحضارة والعراقة أصبحت ساحة للصراعات المتعددة، مع استمرار الاعتداءات التي زعزعت الطمأنينة.
كان كل يوم تمر فيه المدينة، يحمل معه تحدياً جديداً، ولكن تحت قيادة الأمير سعيد، بدأت دمشق تدريجياً في استعادة هدوئها واستقرارها، مما أكد على دور الأمير كحامي وموحد للمدينة في أحلك أوقاتها.
بعد انهيار الحكم العثماني، شكل الأمير سعيد الجزائري حكومة مصغرة تضم خمسة وزراء من خريجي أرقى المدارس في إسطنبول، وهم: فارس الخوري، عطا الأيوبي، شاكر الحنبلي، جميل الألشي، وبديع مؤيد العظم. طلب الأمير من صديقه زكي العظمة التواصل مع الضباط البريطانيين في الحجاز، طالباً منهم تجنب الاحتكاك مع الجيش العثماني المنسحب وتعاملهم مع حكومته الشرعية في دمشق.
لم يرق هذا للبريطانيين، وخصوصاً لقائدهم توماس إدوارد لورانس، المعروف بلورانس العرب. عند وصوله إلى دمشق، جمع لورانس حشداً من السوريين وطالب بإقالة الأمير سعيد وحكومته، مهدداً بالسجن.
في أكتوبر عام 1918، بعد دخولهم دمشق، عقد الأمير سعيد الجزائري أول اجتماع له مع الميجور أوليدن في فندق فيكتوريا، الذي كان شاهداً على لقاء مصيري. وقف الميجور بزيه العسكري الرسمي، بينما جلس الأمير سعيد في مواجهة الضابط البريطاني، مرتدياً طربوشه الأحمر ومعتلياً مقعداً شرقياً مزيناً بالصدف الدمشقي.
ورغم إتقانه للغة الإنجليزية، قرر الأمير سعيد التحدث بالعربية، مؤكداً بذلك هويته العربية أمام الميجور. دار بينهما حديث حول دوافع دخول القوات البريطانية إلى دمشق، محاولة لفهم النوايا الحقيقية وراء هذا التحرك.
وفي نهاية اللقاء، استدعى الأمير سعيد جنوده وأمرهم بمرافقة الميجور أوليدن إلى حي باب شرقي. هناك، شاهد الضابط الأسترالي بأم عينيه الانسحاب المنظم للجيش العثماني من المدينة القديمة.
التفويض المفقود والإشادة المؤجلة:
عندما دخل الشريف ناصر، أحد أقارب الشريف حسين، إلى دمشق كمبعوث من الأمير فيصل، كان لديه سؤال ملح يوجهه للأمير سعيد الجزائري: "هل لديك تفويض من الشريف حسين لحكم المدينة؟"
واجهه الأمير سعيد بهدوء، ورد قائلاً: "لولا تدخلنا، لكانت المدفعية الألمانية قد دمرت دمشق من أعلى جبل قاسيون." هذه الكلمات لم تكن مجرد رد، بل كانت تعبيراً عن الدور الحيوي الذي لعبه الأمير سعيد في حماية المدينة من الدمار.
ومع مرور السنوات، يُروى أن الأمير سعيد زعم لاحقاً أن الشريف ناصر لم يكتفِ بقبول حكمه، بل أشاد بإدارته لدمشق، وطلب منه رسمياً أن يستمر في مهامه حتى وصول الأمير فيصل، لتظل دمشق في أيدٍ آمنة حتى يحين موعد التغيير الكبير.
مواجهة في فندق فيكتوريا
في أحد الأيام الحاسمة من أكتوبر 1918، داخل أروقة فندق فيكتوريا بدمشق، وقف الأمير سعيد الجزائري وجهاً لوجه مع توماس إدوارد لورنس. كانت المواجهة مشحونة بالتوتر، إذ حاول لورنس، مدفوعاً بدسائس بعض الحاقدين، تهديد الأمير سعيد بالسجن.
ولكن الأمير لم يكن ليرضخ لهذا التهديد. بنبرة غاضبة، واجه لورنس قائلاً: "يا لورنس، أنت تهدد أبناء عبد القادر بالسجن مسوقاً بدسائس الدساسين، وأنت تعلم أننا لا نخشى الحبس ولا الموت.. بل لا نخشى أحداً سوى الله. نحن من رفع هذا العلم..." وأشار بيده إلى العلم الذي يرفرف فوق الفندق.
"هذا العلم، الذي استلمته من الملك حسين بن علي بعد أن طيف به حول الكعبة وصلى عليه أربعون ألف مسلم، يخفق الآن فوق رؤوسنا، ولن يتزحزح من مكانه حتى تُراق آخر نقطة من دمائنا. إذا كان الخلاف على هذا الكرسي، فنحن نرفسه بأرجلنا."
كانت كلمات الأمير سعيد إعلاناً عن موقفه الثابت والراسخ، مؤكداً أن السلطة بالنسبة له لم تكن هدفاً، بل كانت الأمانة والحفاظ على كرامة الأمة فوق كل اعتبار.
التنازل الأخير: وداع الأمير
في لحظة تاريخية أعلن الأمير سعيد الجزائري تنازله عن السلطة في دمشق. بعد أن تحمل مسؤولية الحكم في وقت عصيب، أدرك أن مهمته قد انتهت. جمع الجميع حوله، وقال بصوت هادئ لكنه مفعم بالجدية: "إني أتنازل مقدماً عن هذا المنصب للشريف ناصر، ولم أشغله إلا للضرورة المحتمة، وها أنا، نزولاً على رأي أخي، أتنازل عنه باختياري."
وفي اليوم التالي، قام الأمير سعيد بتسليم مقاليد الحكم ومفاتيح السراي، منهياً بذلك أقصر فترة حكم شهدتها دمشق. بخطوات واثقة، ودع الأمير قصر السلطة، تاركاً المدينة بين يدي الشريف ناصر، بعدما قدم مثالاً نادراً على التفاني والإيثار في زمن الاضطرابات.
المصدر/ سامي مروان مبيض