تظهر ازدواجية المعايير الغربية بوضوح في مواقفهم تجاه حرية التعبير: يدعمونها عند خدمتهم لمصالحهم، بينما يدينونها عندما تتعارض مع معتقداتهم الثقافية أو الدينية. تجلي هذه الظاهرة كان في دفاعهم عن نشر صحيفة “شارلي إيبدو” الفرنسية لصور مسيئة للإسلام، مقابل الاستنكار الذي قوبل به محاكاة ساخرة لمشهد “العشاء الأخير” في حفل افتتاح أولمبياد باريس 2024. هذه التناقضات تثير تساؤلات حول مدى التزام الغرب بقيم حرية التعبير والديمقراطية.
في كانون الثاني 2015، نشرت “شارلي إيبدو” صور كاريكاتورية مسيئة للنبي محمد، مما أثار غضباً في العالم الإسلامي. وقد دافع العديد من القادة الغربيين عن حق الصحيفة في النشر، مؤكدين على أهمية حرية التعبير وعدم الرضوخ للتهديدات الإرهابية. تظاهر الملايين في باريس تضامناً مع الصحيفة، تحت شعار “أنا شارلي”.
في المقابل، أثار حفل افتتاح أولمبياد باريس 2024 جدلاً واسعاً بسبب محاكاة ساخرة لمشهد “العشاء الأخير”، مما أدى إلى استنكار شديد في الغرب. انتقدت شخصيات دينية وسياسية هذا المشهد، معتبرةً أنه يمثل إساءة لمقدساتهم، مما يبرز تناقض المواقف تجاه حرية التعبير.
تظهر ازدواجية المعايير جلية في ردود الفعل على هذين الحدثين: الدفاع عن حرية التعبير في حالة “شارلي إيبدو” مقابل الاستنكار في حالة “العشاء الأخير”. هذا التناقض يثير تساؤلات حول مدى صدق الالتزام الغربي بالقيم المذكورة.
قد يكون أحد أسباب هذه الازدواجية هو التطبيق الانتقائي لقيم الحرية والديمقراطية، حيث يتم الدفاع عن حرية التعبير إذا توافق مع القيم العلمانية الغربية، بينما تُنكر عندما تتصادم مع المعتقدات السائدة. هذا يعكس نوعاً من النفاق الثقافي والسياسي يتطلب المعالجة بجدية.
تؤثر هذه الازدواجية بشكل كبير على العلاقات الدولية، خاصة بين الغرب والعالم الإسلامي، حيث يشعر المسلمون بالغضب عندما تُستخدم حرية التعبير كأداة لإهانة دينهم. هذا قد يؤدي إلى تفاقم التوترات الثقافية وزيادة عدم الثقة.
علاوة على ذلك، تؤثر هذه الازدواجية على مصداقية الغرب في دعواته للديمقراطية وحقوق الإنسان؛ إذ يفقد الكثيرون الثقة في تلك الدعوات عندما يرون القيم تُطبق بشكل انتقائي، مما يعيق جهود الترويج لهاتين القيمتين في المجتمعات التي تحتاج إليهما بشدة.تستمر هذه الازدواجية في التأثير على الخطابات السياسية والإعلامية، حيث يتم تبرير بعض الأعمال بحجة حرية التعبير بينما تُستبعد أخرى بناءً على القيم الثقافية أو الدينية. تعد هذه الظاهرة بمثابة تذكير بالشروط المسبقة لفهم مفهوم الحرية، حيث تظهر الحاجة الملحة للاعتراف بتعقيدات الهوية الثقافية والاحترام المتبادل بين الأديان والمعتقدات.
وعلى سبيل المثال، نجد أن الحكومات الغربية تستخدم حرية التعبير كأداة لفرض قيمها الخاصة وتحديد ما يمكن اعتباره مقبولاً أو غير مقبول، في حين يُتجاهل حق الجماعات الأخرى في التعبير عن معتقداتها ومقدساتها. مما يعكس ذلك افتقاراً إلى الفهم العميق للتنوع الثقافي وتقدير الفروق بينها. هذا الانفصال بين الخطاب والممارسة يعزز الشعور بالاستعلاء بين الثقافات، ويزيد من حدة الاستقطابات.
ولتحقيق تقدم فعلي نحو حوار بناء ومثمر بين الثقافات المختلفة، من الضروري أن يتم تبني نهج أكثر شمولية، يقضي على هذه المعايير المزدوجة. يجب أن يكون هناك اعتراف بأن حرية التعبير ليست مجرد أداة يستخدمها طرف واحد لإلغاء الآراء والأفكار المضادة، بل ينبغي أن تشمل جميع الأصوات، حتى تلك التي تُعتبر تقليدية أو دينية.
وبذلك، تُصبح القدرة على النقاش والجدل في المجتمع جزءاً من قوة التعددية، حيث يُمكن الاحتواء بدلاً من الإقصاء. يتطلب هذا الالتزام من القادة الغربيين تجاوز النفاق والتظاهر بأن حرية التعبير مقيدة بتفضيلاتهم الشخصية.
في النهاية، يتعين على التباين الثقافي أن يُعتبر ثروة، وليس لعنة. الإقرار بأن لدينا جميعاً الحق في التعبير عن معتقداتنا دون خوف من الاستهزاء أو الإساءة من قبل الآخرين، هو الطريق نحو عالم أكثر استقراراً وسلاماً.