في مشهد لم تعهده دمشق منذ عقود، وقف الرئيس أحمد الشرع ليخاطب السوريين بلغة جديدة، متجاوزاً خطاب السلطة التقليدي إلى خطاب الخدمة والمسؤولية. في كلمات قليلة، مؤسساً لتحول تاريخي في العلاقة بين الحاكم والمحكوم في سوريا، مستهلاً عهداً جديداً بقوله "أحدثكم لا كحاكم بل كخادم لشعبنا الجريح".
لم تكن هذه التَّقدِمة مجرد تغيير في الخطاب السياسي، بل كانت إعلاناً صريحاً عن تحول جذري في فلسفة الحكم وعلاقة الدولة بالمجتمع. فدمشق، التي شهدت على مر التاريخ تعاقب الحكام والسلاطين، تستمع اليوم إلى لغة مختلفة، لغة تضع الخدمة العامة في قلب العمل السياسي.
وفي تفاصيل الخطاب، رسم الشرع خارطة طريق واضحة المعالم للمرحلة الانتقالية. فإعلانه عن العمل على "تشكيل حكومة انتقالية شاملة تعبر عن تنوع سورية" يكشف عن إدراك عميق لأهمية التمثيل الحقيقي لكافة مكونات المجتمع السوري. هذه الحكومة ليست مجرد هيكل إداري جديد، بل هي تجسيد لفلسفة سياسية تؤمن بأن التنوع مصدر قوة، وأن الوحدة الوطنية لا تتحقق بإقصاء المختلف، بل باحتضانه وإشراكه في صناعة المستقبل.
وعندما تحدث الرئيس عن العمل على "إعلان دستوري" يشكل المرجع القانوني للمرحلة الانتقالية، كان يؤسس لمبدأ سيادة القانون وحكم المؤسسات. فسوريا التي عانت طويلاً من تغول السلطة التنفيذية وضعف المؤسسات، تحتاج اليوم إلى إطار قانوني متين يضمن الحقوق والحريات ويؤسس لدولة القانون والمؤسسات.
ولعل الإعلان عن تشكيل "لجنة تحضيرية لاختيار مجلس تشريعي مصغر، ولجنة تحضيرية لمؤتمر الحوار الوطني" يعكس رؤية واقعية للتحول الديمقراطي. فالانتقال من نظام شمولي إلى نظام ديمقراطي يحتاج إلى مرحلة انتقالية منظمة، تؤسس فيها المؤسسات الديمقراطية خطوة خطوة، وتبنى فيها ثقافة الحوار والمشاركة السياسية تدريجياً.
وفي سياق الأولويات الوطنية، وضع الشرع "تحقيق السلم الأهلي وملاحقة من أجرموا بحق الشعب" في المقدمة. هذا التوجه يعكس فهماً عميقاً لجدلية العدالة والمصالحة. فالسلم الأهلي لا يمكن أن يبنى على التجاهل والنسيان، بل على عدالة انتقالية حقيقية تضمن محاسبة المجرمين وإنصاف الضحايا.
وعندما تحدث عن "إتمام وحدة الأراضي السورية كلها، وفرض سيادتها تحت سلطة واحدة"، كان يتحدث عن تحدٍ وجودي يواجه سوريا المعاصرة. فالدولة السورية التي تمزقت أوصالها خلال سنوات الصراع، تحتاج إلى استعادة وحدتها الترابية وبسط سيادتها الوطنية الكُلِّيَّة كشرط أساسي لأي نهضة مستقبلية.
أما التركيز على "بناء مؤسسات قوية للدولة تقوم على الكفاءة والعدل" فيعكس إدراكاً عميقاً لأهمية الإصلاح المؤسسي. فالدولة القوية ليست هي الدولة القمعية، بل هي الدولة التي تمتلك مؤسسات كفؤة وعادلة، قادرة على خدمة المواطنين وحماية حقوقهم.
وفي الجانب الاقتصادي، حمل الخطاب رؤية لـ"إرساء دعائم اقتصاد قوي". هذا التوجه يدرك أن النهضة السياسية لا يمكن أن تكتمل دون نهضة اقتصادية توفر للمواطنين حياة كريمة. فسوريا التي كانت يوماً من أهم الاقتصادات في المنطقة، تحتاج اليوم إلى إعادة بناء بنيتها الاقتصادية على أسس متينة.
وختم الرئيس خطابه بتأكيد أن "بناء الوطن مسؤوليتنا جميعاً"، داعياً "جميع السوريين لبناء وطن جديد يحكم فيه بالعدل والشورى". هذه الدعوة تتجاوز الخطاب السياسي التقليدي إلى تأسيس عقد اجتماعي جديد يقوم على المشاركة والمسؤولية المشتركة.
هذا التحول في الخطاب السياسي السوري يأتي في لحظة تاريخية فارقة. فسوريا التي عانت من ويلات الحرب والدمار، تقف اليوم على أمل أن تنجح في بناء نموذج جديد للحكم يقوم على العدل والمشاركة والمسؤولية.
وفي هذا السياق، يكتسب خطاب الشرع أهمية استثنائية. فهو لا يقدم مجرد وعود سياسية، بل يؤسس لرؤية متكاملة للدولة والمجتمع. رؤية تدرك أن بناء سوريا الجديدة يحتاج إلى جهد جماعي، وأن التغيير الحقيقي لا يمكن أن يتحقق إلا بمشاركة جميع السوريين.
لكن تحويل هذه الرؤية إلى واقع يحتاج إلى أكثر من ذلك. يحتاج إلى إرادة سياسية صلبة، وإلى تضافر جهود جميع السوريين، وإلى دعم إقليمي ودولي. فسوريا التي كانت حاضرةً في قلب المنطقة، لا يمكن أن تنهض وحدها دون مساندة محيطها العربي والدولي.
وفي النهاية، يبقى السؤال الأهم: هل يمثل هذا الخطاب نقطة تحول حقيقية في تاريخ سوريا المعاصر؟
إن الأيام والأسابيع القادمة ستكون حاسمة في تحديد ما إذا كانت سوريا ستنجح في بناء نموذجها الجديد للحكم، أم ستظل أسيرة تحديات الماضي ومعوقات الحاضر.
إن الفرصة التاريخية متاحة اليوم أمام سوريا لتحقيق تحول تاريخي نحو دولة العدل والقانون والمؤسسات. والمسؤولية مشتركة بين القيادة السياسية والشعب لتحويل هذه الفرصة إلى واقع ملموس يلمسه كل مواطن سوري في حياته اليومية. فهل تنجح سوريا في هذا الاختبار التاريخي؟ هذا ما ستجيب عنه الأيام القادمة.