طوفان الأقصى» وتوظيف الصورة في حرب غزة

دبابة إسرائيلية محترقة بضربة من مقاتلي المقاومة  في غزة
دبابة إسرائيلية محترقة بضربة من مقاتلي المقاومة في غزة


كانت الصورة (المرسومة) ومنذ البدء الوسيلة التعبيرية التسجيلية الوحيدة للإنسان الأولي في غياب اللغة المكتوبة، وهذا ما أظهرته كهوف لاسكو في فرنسا، والألواح الطينية في حضارات ما بين النهرين، قبل أن يتطور فن الرسم في الحضارات المتعاقبة فوجدنا صورا للمعارك والحروب في الحضارات المختلفة وخاصة في الحضارة الفرعونية، ثم في الحضارة الغربية قبل اختراع الصورة الفوتوغرافية.
واقترنت الصورة مع الصحافة المكتوبة التي ظهرت منذ أكثر من قرنين، واكتسب الصورة مكانا بارزا في بعض الصحف والمجلات التي اعتمدت على الصورة كمادة أساسية كمجلة لايف الأمريكية، أو باري ماتش الفرنسية.
وقد وظفت الصورة الفوتوغرافية في تغطية الحروب وكان لها أكبر الأثر في توظيفها للتأثير على الرأي العام و”البروباغاندا” لتأييد هذه الحروب، أو ضدها، فيكفي التقاط صورة مؤثرة لتقلب المفاهيم كما حصل مع صورة فتاة فيتنام العارية تركض أمام الجنود الأمريكيين في قرية ترانغ بانغ الفيتنامية بعد قصفها بقنابل النابالم الحارقة، التي اعتبرت كصورة تاريخية كان لها أكبر الأثر في إنهاء حرب فيتنام وهزيمة أمريكا.
وقبلها كانت صورة الجندي المصاب بطلق ناري في الحرب الأهلية الإسبانية قبل أن يسقط قتيلا، وقد التقطت الصورة في منطقة قرطبة وساهمت هذه الصورة في تعاطف الرأي العام مع الثوار ضد قوات فرانكو خلال الحرب الأهلية الإسبانية، وسواها من الصور التي باتت أيقونات في عالم الصحافة، كصورة الطفل السوري الغريق إيلان والذي وجد على أحد الشواطئ التركية بعد غرقه في البحر بعد انقلاب قاربه في رحلة لجوء هربا من سوريا، والتي كان لها صدى عالمي وتعاطف مع الرأي العام العالمي مع اللاجئين السوريين ومناهضة النظام السوري.
ولهذا كان العالم الإيطالي أنريكو فولكينيوني قد وصف حضارة اليوم في كتاب له بحضارة الصورة.
وسائل باردة وأخرى حارة
صنف العالم الكندي مارشال ماكلوهان وسائل الإعلام إلى وسائل إعلام حارة وأخرى باردة، والمقصود فيها أن هناك وسائل تحتاج للتفكير والجهد من قبل المستقبل، وأخرى لا تتطلب ذلك.
فالصحافة المكتوبة هي وسيلة باردة، أي أنها تحتاج ممن يقرأها جهدا عقليا، وهي موجهة بالأساس لطبقة متعلمة من المجتمع، ومن خاصية هذه الوسيلة أنها تعتبر مادة توثيقية يمكن حفظها.
أما الإذاعة والتلفزيون فقد صنفها ماكلوهان من الوسائل الحارة، كونها لا تحتاج لتفكير ولا تتطلب من المستمع أو المشاهد أن يكون متعلما، إذ يكفي الاستماع أو المشاهدة لتلقي المعلومة.
مع ظهور الانترنيت ومحركات البحث، والسوشيال ميديا احتلت الصورة “المتحركة” مركز الصدارة (الفيديو)، ك “يوتيوب”، و”تيك توك”، “وفيس بوك”، و”إكس” وسواها. كما أن الهواتف الذكية المحمولة أسهمت في خلق فضاء إعلامي جديد في متناول كل فرد يمكنه أن يصور مقاطع فيديو ويضعها على أحد المحركات، أو في المواقع الإلكترونية، وكثير من الصحف الإلكترونية أصبحت تستعين بها.
وتحولت الصحف الورقية إلى الويب أو نسخة لها تشاهد على النت ومرفقة بالفيديوهات في بعض أخبارها.
ولهذه الأسباب أصبحت الصورة المتحركة تحتل مركزا أساسيا في المشهد الإعلامي العام. وفي العالم العربي كان لها تأثير كبير واتساع كون نسبة الأمية كبيرة من ناحية، وتدني عدد القراء من ناحية ثانية.
الإعلام العسكري
لقد نجحت فصائل المقاومة في معركة “طوفان الأقصى” عسكريا على جيش الاحتلال بكل المقاييس وحسب معظم المحللين العسكريين والاستراتيجيين، أبهرت العالم بتخطيطها لهذه المعركة عسكريا، وإعلاميا باستخدامها للأنفاق كقواعد ارتكاز للمقاتلين وتخزين الأسلحة والذخائر، ومتاهة لجيش الاحتلال، أما إعلاميا فقد استطاعت وبمهنية عالية من تحقيق مجموعة من النجاحات على أكثر من مستوى.
فهي نجحت في تقديم صورة جديدة لتوثيق عملياتها العسكرية بمستوى تقني وفني عاليين، وكان لهذه الصورة الجديدة المبتكرة للإعلام العسكري في تقديم وثائق مصورة والإشارة بالمثلث الأحمر لقصف آليات العدو وتجمعاته العسكرية التي اختلفت جذريا عن تقديم الصورة النمطية في عمليات بث أخبار المعارك ببيانات إحصائية لا يمكن التحقق منها، وخاصة الصادرة عن الأنظمة السياسية العربية التي كانت توهم المواطنين بانتصارات كاذبة، أكبر الأثر في بث الثقة في نفوس المشاهدين بحقيقة ما يجري في الميدان في غزة، فتقديم الحدث بالصوت والصورة لا مجال للشك فيه، فهي صور حقيقية، تبين جرأة المقاتل الذي يواجه دبابات العدو وآلياته، وتجمعات جنوده.
ولا مجال للزيف، فالمقاومة أظهرت المقاتل المقاوم وهو يسدد ويضرب الآلية وهي تنفجر، أو كيف يقوم المقاوم بوضع عبوة ناسفة من المسافة صفر على دبابة إسرائيلية ويعود إلى النفق قبل أن تنفجر، أو كيف يستهدف تجمعات جنود العدو بقذائف ضد الأفراد.
الرأي العام العربي
هذه الصور قلبت الرأي العام العربي من الإحباط إلى إعادة الثقة أن الانتصار على العدو ممكن وبأدوات لا تقارن بإمكانياته، وقدراته على مستوى التعداد والعتاد، وكذلك قلبت الرأي العام العالمي رأسا على عقب من الدعم الأعمى لدولة الاحتلال، إلى الرفض لاحتلالها للأراضي الفلسطينية، وتأييد الفلسطينيين في قضيتهم العادلة، حتى على مستوى الداخل الإسرائيلي فإن صور تسليم الأسرى الإسرائيليين، وتصريحاتهم حول تعامل عناصر المقاومة لهم أحدثت تغيرا واضحا في مواقف هؤلاء من الفلسطينيين، وهناك من بدأ يطالب بوقف إطلاق النار وبانسحاب الجيش من غزة.
كما أن المقاومة ببثها رسالة لعائلات الرهائن تعتبر ضربة إعلامية كبيرة من شأنها تأليب عائلات الرهائن على رئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو، وتحول المتحدث باسم حماس أبو عبيدة إلى أيقونة أثارت الإعجاب بـ”الملثم”، بينما ساهمت صور الدمار وقتل الأطفال والنساء، والصحافيين من قبل جيش الاحتلال بانقلاب جذري لدى الشعوب الغربية بشكل كشفت حقيقة الغرب حين فضحت صورة موت الأبرياء في غزة زيف من يدعون الإنسانية، وحقوق الإنسان، والديمقراطية.
في الطرف المقابل لم يتمكن جيش دولة الاحتلال من تقديم أي وثائق مصورة تظهر أعمالا قتالية حقيقية في مواجهة مقاتلي القسام والجهاد، سوى بعض الفيديوهات المضحكة التي تظهر جنود الاحتلال يطلقون النار على الجدران، أو يدخلون المباني المهدمة تسبقهم كلابهم للتحقق من أنها خالية من المقاتلين.
فقط صور القصف الهمجي البربري بالطائرات والدبابات والمدافع الذي أظهر مدى وحشية هذا الكيان الذي إزاء هزائمه لم يجد أمامه سوى الانتقام من المدنيين والأطفال.
دور الوسيلة
بالطبع أن لهذه الفيديوهات التوثيقة التي أنجزتها المقاومة في هذه الحرب التحريرية لم تكن لتجد هذا الانتشار الواسع لولا الوسيلة التي توصلها للمشاهد، والوسيلة هنا القنوات التلفزيونية، وهنا لابد من التنويه لدور قناة “الجزيرة” الفعال في تغطية هذه الحرب، كما عودت المشاهد العربي منذ ربع قرن في تغطيتها لأهم الأحداث في العالم العربي، لكن تغطية الحرب في غزة كانت مثالا رائعا للتغطية المستمرة لمجريات هذه الحرب، وتوظيف كل الإمكانيات التقنية، والفنية، والبشرية، بحرفية عالية، وبالتنظيم الإداري، خاصة أنها اقترنت بالتحليلات العسكرية التي قدمها اللواء الفذ فايز الدويري، والسياسية التي قدمتها مجموعة من المحللين المختصين بشؤون دولة الاحتلال. خاصة وأن هذه الحرب المستمرة منذ ثلاثة أشهر حافظت “الجزيرة” خلالها على متابعة هذا الحدث التاريخي الذي ستكون له انعكاسات كبيرة على جميع الأصعدة، وإعطائه الأولية الذي يستحقها.
كاتب سوري