(عن القدس العربي)
تتزامن الذكرى الخامسة والسبعون لاحتلال فلسطين مع اندلاع حرب العسكر في السودان. وهذا التزامن له رمزية خاصة على مستوى الصراع العربي الإسرائيلي، وعلى السودان نفسها.
الخرطوم عاصمة الدولة التي كانت الأكبر مساحة في إفريقيا، قبل تقسيمها، التأم فيها في 29آب/أغسطس 1967 مؤتمر القمة العربية على خلفية حرب الخامس من حزيران/يونيو 1967 الذي اتخذ فيه زعماء العرب آنذاك في بيانهم الختامي ما يسمى بلاءات الخرطوم: (لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف) بدولة الاحتلال. بالطبع هذا القرار لم يستمر طويلا، فالاتصالات مع مغتصب الأرض الفلسطينية، ومحتل أراض لدول عربية أخرى بدأت مباشرة بعد حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973 الذي تحتفل فيه مصر كنصر على إسرائيل تمهيدا لأول صلح، وتفاوض، واعتراف بدولة الاحتلال في محادثات كامب ديفيد.
اليوم في الذكرى الخامسة والسبعين للاحتلال تتمدد هذه الدولة على الأراضي العربية، فبعد اتفاق وادي عربة للصلح مع الأردن في العام 1994 قامت أربع دول عربية أخرى دفعة واحدة بالتطبيع والاعتراف (الإمارات، البحرين، المغرب، السودان). ولسخرية التاريخ أن عاصمة اللاءات الثلاث كانت هي المبادرة بالتطبيع، مدفوعة من دول أخرى، في خضم ثورة السودان ضد حكم العسكر وإسقاط نظام عمر حسن البشير، وهذه العاصمة التي احتضنت المؤتمر الشهير ضد دولة الاحتلال، فإن هذه الأخيرة هي اليوم التي تعبر عن استعدادها للوساطة بين طرفي النزاع الدائر حاليا والمتمثلين في الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، وكأنها تحل محل الجامعة العربية نفسها.
حروب التقسيم
في شباط/ فبراير 1982 نشرت الجريدة الصهيونية “كيفونيم” مقالا لعوديد ينون للمستشار السابق لرئيس وزراء دولة الاحتلال أرييل شارون، وأحد كبار موظفي وزارة الخارجية، تحت عنوان: “الأرض الموعودة: خطة صهيونية من الثمانينيات” وتدعو الدراسة التي تقع في 30 صفحة إلى العمل على تحول إسرائيل إلى قوة إقليمية إمبريالية والعمل على تحويل المنطقة برمتها إلى دويلات صغيرة عن طريق تفكيك جميع الدول العربية القائمة حاليا، وسوف يكون معيار التقسيم المكون الإثني أو الطائفي لكل دولةـ وتشرح هذه الوثيقة كيفية تقسيم الدول العربية إلى دويلات طائفية عبر حروب تقسيم.
وتشير الدراسة إلى السودان بالقول: وأما السودان، أكثر دول العالم العربي الإسلامي تفككا، فإنها تتكون من أربع مجموعات سكانية كل منها غريبة عن الأخرى؛ فمن أقلية عربية مسلمة سنية تُسيطر على أغلبية غير عربية أفريقية إلى وثنيين ومسيحيين.
وفي مصر توجد أغلبية سنية مسلمة مقابل أقلية كبيرة من المسيحيين الذين يُشكلون الأغلبية في مصر العليا، حوالي 6 ملايين نسمة.
وكان السادات قد أعرب في خطابه في أيار/مايو من عام 1980 عن خشيته من أن تُطالب هذه الأقلية بقيام دولتها الخاصة؛ أي دولة لبنانية مسيحية جديدة في مصر.
إن مصر المفكّكة والمقسمة إلى عناصر سيادية متعددة، على عكس ما هي عليه الآن، لن تُشكل أي تهديد (لإسرائيل) بل ستكون ضماناً للأمن والسلام لفترة طويلة، وهذا الأمر هو اليوم في متناول أيدينا.
إن دولا مثل ليبيا والسودان والدول الأبعد منها لن يكون لها وجود في صورتها الحالية، بل ستنضم إلى حالة التفكك والسقوط. (لقد تم التقسيم الأول في العام 2011، واليوم يتم التحضير للتقسيم الثاني)
إن سوريا لا تختلف اختلافاً جوهرياً عن لبنان الطائفية باستثناء النظام العسكري القوي الذي يحكمها. ولكن الحرب الداخلية الحقيقية اليوم بين الأغلبية السنية والأقلية الحاكمة من الشيعة العلويين الذين يُشكلون 12% فقط من عدد السكان، تدل على مدى خطورة المشكلة الداخلية.
إن تفكك سوريا والعراق في وقت لاحق إلى أقاليم ذات طابع قومي وديني مستقل، كما هو الحال في لبنان، هو هدف (إسرائيل) الأسمى في الجبهة الشرقية على المدى القصير، فسوف تتفتت سوريا تبعاً لتركيبها العرقي والطائفي إلى دويلات عدة (وهذا ما يحصل اليوم على أرض الواقع) كما هو الحال الآن في لبنان، وعليه فسوف تظهر على الشاطئ دولة علوية.
وفي منطقة حلب دويلة سنية، وفي منطقة دمشق دويلة سنية أخرى معادية لتلك التي في الشمال، وأما الدروز فسوف يُشكلون دويلة في الجولان التي نسيطر عليها.
إن العراق لا يختلف كثيراً عن جارته ولكن الأغلبية فيه من الشيعة والأقلية من السنة، إن 65 في المئة من السكان ليس لهم أي تأثير على الدولة التي تُشكل الفئة الحاكمة فيها 20 في المئة إلى جانب الأقلية الكردية الكبيرة في الشمال.
ولولا القوة العسكرية للنظام الحاكم وأموال البترول، لما كان بالإمكان أن يختلف مستقبل العراق عن ماضي لبنان وحاضر سوريا.
فشل الأنظمة
بعد أربعة عقود ونيف من هذه الوثيقة نشهد اليوم سيناريوهات مشابهة قريبة جدا من هذا الكلام، في أكثر من دولة عربية مزقتها الحروب والنزاعات الداخلية، (لبنان، سوريا، اليمن، العراق، ليبيا، السودان) ولم تعط الأنظمة العربية أي بصيص أمل في بناء قوي متماسك اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا قابل لصد أي مخطط تقسيمي، وهذا الفشل فشل جماعي، فالجامعة العربية لم تطبق أي بند من بنود البيانات الختامية للقمم العربية (31 بيانا ختاميا) التي ترسب فوقها الكثير من الغبار، من مؤتمر أنشاص، إلى مؤتمر الخرطوم، وصولا إلى المؤتمر الأخير في الجزائر، والحبل على الجرار.
إن الأزمات المتعددة الأشكال في معظم الدول العربية هي من نتاج هذه الأنظمة وليست خارجة عنها، وأثبتت مع مواجهة الأحداث الداخلية أن الجيوش التي بنيت من عرق جبين الشعوب كانت لقتل هذه الشعوب في حال طالبت ببناء الدولة الديمقراطية وضمان الحريات. والتهديد الخارجي لا يزال قائما من أكثر من دولة إقليمية وعلى رأسها إسرائيل بحكوماتها المتطرفة، التي تسعى لابتلاع كل أراضي فلسطين، والجولان، وتجريد فلسطينيي الداخل من ممتلكاتهم العقارية وممارسة الأبارتهايد بحقهم.
وليس مستبعدا للهروب من أزماتها الداخلية أن تمارس اعتداءاتها الخارجية، إلى جانب لعب دور الوسيط في النزاعات العربية ـ العربية كما حصل في السودان، وكأنها تحل محل الجامعة العربية.. وبالانتظار فإن الاحتمالات القوية بعودة الاشتباكات في دارفور تعيدنا إلى حرب كانت نائمة وهناك من يريد إشعالها في مشروع انفصالي جديد يحاكي خطة عوديد ينون..
كاتب سوري