هل نحن مرتزقة؟

جنود سوريون (انترنت)
جنود سوريون (انترنت)


انتشر في وسائل الإعلام المختلفة خلال الفترة الماضية مصطلح جديد يتم استخدامه للإشارة إلى المقاتلين الأجانب المحاربين في حروب خارج بلادهم مقابل مبالغ مالية وهو مصطلح المرتزقة السوريين, وقد تم استخدام هذا المصطلح بشكل أساسي في ليبيا وفي أذربيجان حتى بات شماعة يعلق عليها المهزومون هزائمهم في أكثر من صراع وفي أكثر من دولة وكأنما المرتزقة السوريون هم رجال خارقون لا يدخلون صراعاً إلا ويحدثون تغييراً في موازين القوى.

تعود مشاركة السوريين في صراعات خارج بلادهم في الحقيقة إلى أزمان سابقة, عندما استثمر حافظ الأسد في الجيش كوسيلة لامتلاك أوراق الضغط الإقليمية أو لحصد المكاسب المالية لنظامه ناهيك عن استثماره في التنظيمات المعادية لأنظمة دول المنطقة عموماً, فرأينا الطيارين السوريين في حرب اليمن في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات ورأيناهم في الحرب الليبية التشادية كما رأيناهم في صراعات أخرى من أجل أن يحصد حافظ الأسد مكانة لنظامه, بالإضافة لذلك شاهدنا الجيش السوري مشاركاً في ذات الخندق مع القوات الأمريكية في حرب تحرير الكويت مقابل إسقاط الديون السورية المستحقة لدول الخليج العربي.

مصطلح الارتزاق مصطلح قديم جداً, وربما يكون جيش المرتزقة اليونانيين المتواجد مع الجيش الفارسي خلال حروب الاسكندر المقدوني وما قبلها هي المثال الاقدم والاوضح لها, وقد استخدم الحاكم الفارسي هؤلاء المرتزقة ليكونوا في مقدمة جيشه ليحافظ على جنوده ولتكون النسبة الأكبر من الخسائر منهم, ليتكرر هذا الامر في التاريخ بكثافة وصولاً لزمننا الراهن.

تزامن بروز مصطلح المرتزقة السوريين مع وصول الحل السياسي في سوريا لحائط مسدود نتيجة لتعنّت النظام وشعوره بالقوة التي حصل عليها نتيجة اتفاقية آستانة بين موسكو وأنقرة وطهران, تلك الاتفاقية التي سمحت له باستعادة مساحات كبرى من سوريا كانت تسيطر عليها قوى الثورة, تزامن ذلك مع حصار تعرضت له المناطق المتبقية بيد الثورة في الشمال والشمال الغربي من سوريا سواء من جهة النظام أو من جهة تركيا, كذلك مع تضييق النظام على ما تبقى من الشعب السوري داخل سوريا نتيجة حاجته لدفع ضريبة استدعائه التدخل الروسي الإيراني ومرتزقتهم في سوريا لمواجهة الشعب السوري فكان أن فرض على ما تبقى من السوريين سياسات تجويع صارمة أمنت له القدرة على استمرار تمويل حربه ضد السوريين ودفع فاتورة الحرب على شعبنا لدول الاحتلال وللميليشيات الإرهابية المختلفة.

خلقت هذه الحال واقعاً اقتصادياً غاية في السوء على جميع السوريين الذين باتوا يفتقدون لأساسيات الحياة, بالإضافة لجيش من المقاتلين السابقين العاطلين عن العمل والمفتقدين لأي أمل في الحياة, ما جعل أمر تجنيدهم يتم بسلاسة خصوصاً مع التسهيلات الكبرى التي قدمها النظام أو الجيش "الوطني" للانضمام لعمليات التجنيد لخوض الحروب خارج سوريا.

برز المصطلح لأول مرة خلال الحرب الليبية عندما بدأت التقارير تتوارد عن وجود مقاتلين سوريين إلى جانب قوات الحكومة الشرعية, بالإضافة إلى تقارير أخرى أكدت تواجد مقاتلين سوريين إلى جانب قائد الجيش المنقلب خليفة حفتر, في الحالة الأولى نقلت تركيا المقاتلين, وفي الحالة الثانية نقلتهم روسيا, ليجد أطراف الحرب السورية أنفسهم وجهاً لوجه في ساحة القتال على أرض غريبة, ولتحقيق أهداف أخرى لا تمت للوضع السوري بأي صلة, ليتكرر المشهد مرة أخرى في أذربيجان عندما نقلت تركيا عدداً من المقاتلين السوريين إلى جانب قوات أذربيجان, بينما نقلت موسكو عدداً من المقاتلين إلى جانب قوات أرمينيا, في صراعات لا علاقة لأي سوري بها لا من قريب ولا من بعيد.

لقد باتت ظاهرة الارتزاق بين المقاتلين السوريين أكبر من قدرتنا على تجاهلها بوجود مكاتب متخصصة تعمل على تجنيدهم تحت مسميات شركات أمن, وبظل وجود الكثير من الصراعات القذرة التي تحاول الدول خوضها دون الاشتراك الفعلي فيها فإن هذه الظاهرة لا تتجه نحو الاختفاء لا سيما مع تعاظم الفقر بين السوريين وزيادة المغريات المادية للمقاتلين, واتجاه بعض الدول لإدراج هذا الامر ضمن استراتيجياتها الدفاعية كتركيا والامارات وروسيا.

في ظل كل هذه التطورات برزت فئة من السوريين تبرر هذه الأعمال كونها البديل الوحيد المتوفر للسوريين لجني الأموال الكافية للحياة, ليعملوا بشكل تدريجي على فرض هذا الامر وتزيينه في عقل شبابنا كأحد وسائل الرزق دون أدنى إحساس بالمسؤولية تجاه مستقبل سوريا وفي ظل غياب أي فرصة عمل حقيقية توجدها تنمية حقيقة نتيجة لانسداد الأفق السياسي عن سوريا وابتعاد الحلول السياسية.

في الحقيقة لا يمكننا فعل أي شيء تجاه هذه الظاهرة في الظروف الحالية, فإنهاء هذه الظاهرة يحتاج استقراراً سياسياً وفرص عمل وخدمات توفرها الدولة, والأهم من ذلك يحتاج استقلالاً للقرار الوطني لا يمكن توفيره اليوم مع تعاظم دور تركيا في الشمال وروسيا في باقي البلاد وسيطرتهم على كافة مفاصل القرار الوطني السوري وفي ظل غياب كامل لأجهزة الدولة نتيجة حرب النظام ضد شعبه.

لكن يبقى السؤال الأهم هل نحن مرتزقة؟

في الحقيقة أي شعب يتم وضعه بذات الظروف التي وضع فيها شعبنا سيكون عرضة لهذه الظاهرة, خصوصاً عندما يكون النظام الحاكم بسلطة الامر الواقع داعماً ليتخلص من جزء من مشاكله وعندما تكون الحكومة التي يفترض بها تمثيل الثورة حكومة تمثل المصالح التركية فقط فيرفع رئيسها أعلام تركيا وصور رئيسها.

يمكن لنا القضاء على هذه الظاهرة عند وجود الحل السياسي وتحقيق الانتقال السياسي والاتفاق بعدها على عقد اجتماعي جديد يقود عملية إعادة البناء سواء للإنسان السوري أو للاقتصاد السوري في مجتمع تسوده قيم الحرية والعدالة والمساواة, إن هذه الظاهرة تزيد في هشاشة المجتمع السوري وتزيد من صعوبة تعافي هذا المجتمع بخلقها صراعات جديدة لا علاقة لها بالوضع السوري, كما أنها تجعل مسألة السيطرة على هؤلاء المقاتلين فيما بعد صعبة عندما يصبح الارتزاق مهنتهم ويصبح المجتمع أكثر قبولاً لهذه المهنة مع الوقت مع وجود المبررات الآنية المقنعة والتي لا تأخذ بعين الاعتبار التأثيرات المستقبلية.

بتصوري أن مشكلة الارتزاق اليوم هي مشكلة ذات أولوية كون خطورتها تزداد مع طول المدة وانسداد الأفق السياسي, ولا يمكن لنا مواجهتها الا بتوفير البدائل الاقتصادية أولاً وتحرير القرار الوطني من سطوة دول الاحتلال, فلا يريد أحد من السوريين أن يوصف بأنه مرتزق, ولا نريد لمستقبلنا أن تتم معايرته بتاريخه الارتزاقي.