كثير من الحبر سُكِب في الحديث عن الأزمة الحالية في أوكرانيا، ربطاً بتاريخ ملتبس بينها وبين روسيا وحاضر تضاربت فيه المصالح بشكل جدّي بين غرب راغب في سطوة كاملة تجنّبه الصراع المباشر مع العملاق الصيني وروسيا ذلك البلد الذي ينخره الفساد مطيحاً بفرصة أن يكون قطباً عالميا كفؤاً نقطة قوته إمكانياته الهائلة على كافة الأصعدة لا على الصعيد العسكري حصراً.
لكن الغوص في بحر هذه المسألة بعيداً عن قشور العناوين العاجلة الحمراء والتناول السهل لقضية بهذا الحجم يضعنا أمام واقع مختلف تماماً عن الصورة الصغيرة التي يتم تصديرها لنا كمتابعين بعيدين عن مطابخ السياسة الدولية, فأمر بهذه الضخامة لا يمكن له أن يكون وليد محاولة يقوم بها الناتو بشكل دائم لضم دول جديدة على حدود الاتحاد الروسي أو الصين, هذا التوسع الذي يشكل تفصيلاً تكتيكياً في قوة الردع العسكري في ظل وجود الرادع النووي الاستراتيجي القادر على إفناء كوكب الأرض ببضع ضغطات على مفاتيح حمراء تتحكم بباب جهنم النووي القادر على إفناء جنس البشر كاملاً.
عوداً على التاريخ المحرك الأول للسياسة, بنيت كييف في القرن الثامن الميلادي في منطقة شكلت على الدوام نقطة الوصل ما بين الشرق الروسي والشمال البولندي الليتواني والجنوب التتاري العثماني لتكون محور صراع بين هذه القوى لمدة طويلة, فبناة كييف كانوا من السلاف الذين أنشأوا فيما بعد عاصمتهم الجديدة موسكو بعيد إقامة الإمبراطورية الروسية في سان بطرسبرغ ليقوم البلاشفة فيما بعد بنقل العاصمة الى موسكو لقطع الصلة مع الماضي القيصري لروسيا, كانت كييف ولوقت طويل عاصمة الإمبراطورية الروسية الناشئة التي بدأت من الجنوب انتقالا للشمال لتحقيق حلم كبير بإنشاء وطن قومي للقومية السلافية وعدت به عدة أساطير سلافية رأت في فترات متعددة من تاريخها أن هذا العرق يتمتع بمميزات تجعله متفوقا على أعراق أخرى حتى قبل ظهور النزعة القومية السياسية في أوروبا لكن هذا الحلم كان بعيد المنال مع وجود امبراطوريات مجاورة قوية تسكنها أقليات سلافية ما جعل الإمبراطورية الروسية في صراع دائم مع جيرانها يحدوها أملان أولهما الوصول للمياه الدافئة وثانيهما تشكيل وطن السلاف.
لم يتم تشكيل دولة باسم أوكرانيا حتى العام 1921 حيث كانت المناطق الأوكرانية مثار نزاع دائم بين روسيا القيصرية والامبراطورية البولندية الليتوانية تتقاسمها فيما بينها حيناً وتسيطر احداها حينا آخر حتى قامت روسيا القيصرية في نهاية القرن الثامن عشر باحتلال جزيرة القرم وكامل الأراضي الأوكرانية وضمتها الى دولتها لينتهي كل هذا مع قيام حرب التحرير الأوكرانية في العام 1919 التي شكلت الجمهورية الأوكرانية الشعبية والتي كانت طرفاً مؤسسا في الاتحاد السوفياتي لاحقاً.
لطالما نظر السلاف الروس الى السلاف الأوكران على أنهم سلاف من الدرجة الثانية كون الأوكرانيين شعب يمتهن الزراعة ولم يتأثر كثيراً بالحراك الارستقراطي في روسيا القيصرية حيث خلقت فجوة معرفية بين السلاف الروس والسلاف الاوكرانيين فأطلق الروس عليهم "خوخلي" بمعنى الشخص غير الذكي وغير المثقف, ومن نافلة القول أن روسيا القيصرية والاتحاد السوفياتي من بعدها نظرا لأوكرانيا كسلة غذاء أكثر من أي أمر آخر, حتى أن هتلر خلال غزوه للاتحاد السوفياتي أوقف الهجوم على موسكو ليحتل أوكرانيا ليخنق الاتحاد السوفياتي غذائياً مضيفاً لحربه عليه سلاحاً جديداً هو سلاح الجوع.
مع اندلاع الثورة الأوكرانية في العام 2014 ضد الرئيس الاوكراني يانكوفيتش الذي كان دمية لروسيا بدأت موسكو تستشعر خطر انفلات دولة هامة كأوكرانيا من تحت عباءتها وانتقالها للمحور الاخر الذي ترى فيه موسكو خطرا وجودياً عليها والمتمثل بالمحور الغربي في ظل رغبة الشعب الاوكراني بغالبيته في الانضمام الى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي وهو الامر الذي يهدد شبكة الأمان القريبة لموسكو لا سيما بعد خسارتها لدول البلطيق التي كانت قد اختارت ذلك المسار سابقاً, لذلك قررت موسكو التدخل مباشرة لحماية مصالحها ومحاصرة أوكرانيا من خلال احتلال شبه جزيرة القرم بذريعة وجود مواطنين روس هناك وكان لها هذا الامر في ظل وجود ردود أفعال محدودة من الغرب الذي رأى في الخطوة الروسية ثمناً مقبولاً في مقابل حرمان روسيا من دولة جديدة كانت تمنحها عمقاً استراتيجيا على مقربة من دول الاتحاد الأوروبي.
لكن مسألة القرم لم تكن الوحيدة التي أثارتها موسكو, بل قامت بدعم مجموعات مسلحة من الروس القاطنين في حوض دونباس شرق أوكرانيا للقيام بتمرد مسلح بحجة رغبة سكان هذه المنطقة من الأغلبية الروسية بالانفصال عن أوكرانيا الامر الذي أشعل حرباً بين الطرفين انتهت بتوقيع اتفاقية مينسك الثانية عام 2015 والتي نصت على وقف اطلاق النار وخلق منطقة عازلة بين الطرفية بعمق 50 كيلومتراً وسيطرة الحكومة الأوكرانية على حدود البلاد وتفعيل الرقابة على وقف اطلاق النار بين الطرفين, وهو الامر الذي عنى غرز الخنجر الروسي في الخاصرة الأوكرانية وخلق منطقة للابتزاز السياسي والتهديد العسكري في شرق أوكرانيا وهو الامر الذي عنى تجميد الصراع دون انهاءه للحظة التي ترى موسكو ضرورة لإعادة تفعيله عندما تقتضي الحاجة.
لكن روسيا لم تنتظر كثيراً فقامت بتحريك قواتها في العام 2016 على طول خط الحدود مع أوكرانيا الامر الذي اعتبرته اوكرانيا تهديدا مباشرا لها, لكن لم يحدث اي اشتباك عسكري حتى العام 2018 عندما قامت سفينة عسكرية روسية باستهداف ثلاث سفن تجارية اوكرانية في مضيق كيرتش لتعلن بعده اوكرانيا حالة الاستنفار والاحكام العرفية على طول الساحل الجنوبي لها على البحر الأسود, ولتبحث اوكرانيا عن شبكة امان تحميها من المطامع الروسية من خلال محاولة تسريع عملية الانضمام الى حلف الناتو وهو الامر الذي رأت فيه موسكو خطاً أحمرا لا تقبل بتجاوزه.
اشتعل الصراع مجددا في بداية العام الحالي عندما بدأت المجموعات المسلحة التابعة لموسكو في إقليم دونباس باستفزاز اوكرانيا ليتصاعد الصراع تدريجيا لنصل الى اليوم الذي أعلن فيه الرئيس الروسي بوتين اعترافه باستقلال دولتي الاقليم وتوقيع اتفاقيات الدفاع والتعاون معها لتصبح عمليا تحت السيادة الروسية.
لكن هنا يجب أن نسأل عدة أسئلة تساعدنا الإجابة عليها في فهم الموقف, هل موسكو جادة في الحرب ام انها تلعب على حافة الهاوية؟, هل موسكو قادرة عسكرياً واقتصادياً وبشرياً على تحمل كلفة حرب قد لا تكون قصيرة وفي مساحة كبيرة كمساحة الدولة الاوكرانية؟, هل الغرب جاهز لخوض المعركة؟, هل الغرب قادر على فرض عقوبات ذات أثر على موسكو؟, هل أوروبا جاهزة لتحمل حرب في هذه الجغرافيا وما يتبع ذلك من خسارة الغاز والنفط الروسي الذي يشكل 40% من حاجاتها؟, ما علاقة شركات السلاح الامريكية في الاحداث؟, هل تدفع واشنطن موسكو للحرب؟, ما هو موقف الصين من كل ما يجري؟, في الحقيقة فإن الإجابة على هذه التساؤلات يمكن ان يعطينا تصوراً واضحا عن الموقف, لنحاول الإجابة عليها بظل المعطيات.
هل موسكو جادة في الحرب أم أنها تلعب على حافة الهاوية؟
في الحقيقة يبرع الروس في سياسة التلويح بالحرب, فهم قادرون على الدفع بالأمور الى حافة الهاوية مع ترك الباب مواربا للعمل السياسي وراء الأبواب المغلقة وقد شهدنا هذا الامر في عدة أمثلة تاريخية ابرزها الازمة الكوبية عندما كاد الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة يدخلان حربا نووية مدمرة قبل ان تحصل موسكو على ما تريد بعيدا عن جغرافيتها ودون تأثير مباشر على ارضها, فموسكو تعلم أكثر من غيرها تبعات الحروب وكلفتها, فحتى لو سارت الاحداث نحو قيام حرب محدودة على الحدود الأوكرانية الا ان حرباً شاملة وغزواً واسعاً للأراضي الأوكرانية امر بعيد لعدد من الأسباب سنشرحها في الفصول التالية, فبوتين يفضل القيام بسياسة الخطوة خطوة بحيث يحصل في كل مرة على جزء من مصالحه دون ان يفرط بقوة موسكو من خلال الزج بها في حرب شاملة ليست مستعدة لها.
هل موسكو قادرة عسكرياً واقتصادياً وبشرياً على تحمل كلفة حرب قد لا تكون قصيرة وفي مساحة كبيرة كمساحة الدولة الاوكرانية؟
نظرياً موسكو قادرة عسكرياً على احتلال اوكرانيا في زمن قياسي دون احتساب المقاومة الشعبية التي قد تطول لسنوات, لكن هذه الحرب لها كلفة عسكرية واقتصادية لا تستطيع روسيا الحالية دفعها نظراً لاقتصادها المتهالك بالمقارنة مع دول اصغر حجماً واقل سكانا وثروات كبعض الدول الأوروبية بالإضافة الى تجربة السلاح الروسي في سوريا والتي اثبتت انه لا يتمتع بالإمكانات التي تروجها البروبوغاندا الروسية, فأمام مجموعات مقاتلة محدودة التسليح استغرقت موسكو اكثر من 4 سنوات لفرض السيطرة على 60% من الأراضي السورية والتي جاء أغلبها باعتماد سياسات لا تعتمد كثيرا على السلاح كقوة حاسمة كسرتها إرادة السوريين, بل اعتمدت سلاح التجويع وارتكاب المجازر واللعب من تحت الطاولة عبر تجنيد عملاء داخل كيانات المعارضة السياسية والعسكرية في ظل تمويل اماراتي غير محدود وسيطرة روسية على مفاصل الاقتصاد السوري الرئيسية, وهو أمر لا يتوافر بشكل كبير في الحالة الأوكرانية.
هل الغرب جاهز لخوض المعركة؟
هنا يجب أن نميز بين نوعين من الغرب, غرب أوروبي على مقربة من الصراع سيعاني من تبعاته السياسية والأمنية والإنسانية ناهيك عن مشكلة الطاقة, وغرب امريكي يرى في الحدث أحجاراً في رقعة شطرنج أكبر مع الصين أولا ومع روسيا الراغبة في إعادة نفسها قطبا عالميا من خلال القوة العسكرية, وبحساب للمخاوف والمصالح نجد ان أوروبا غير جاهزة لهكذا حرب لا سيما بعد ازمة كورونا والازمة الاقتصادية التي شكلتها, فأوروبا اليوم تبحث عن زيادة الإنتاج بالاعتماد على النفط والغاز الروسي وأي صراع مع موسكو سيعني حرمانها من هذا الإنتاج فحتى لو وجدت أوروبا مورداً جديداً للطاقة سواء من الولايات المتحدة او قطر او غيرها فتكلفة هذه الطاقة ستتضاعف مرة او مرتين ليصبح معها حلم العودة لسهم التنمية الصاعد وهما لا تقوى أوروبا على تحمل تبعاته, في المقابل ترى الولايات المتحدة في الحدث الاوكراني فرصة لتقييد رغبات موسكو وتحييدها اذا استطاعت لتتفرغ للصراع مع الصين الذي يمثل اليوم الخطر الاكبر على المصالح الامريكية, حيث تمثل هذه الحرب في حال حدوثها عقبة قد تؤخر مشاريع الصين العالمية وربما توقف مشروعها "طريق الحرير الجديد" الى الابد ما يعني ضربة شديدة للحلم الصيني.
هل الغرب قادر على فرض عقوبات ذات أثر على موسكو؟
يطرح الغرب في هذا الباب عدداً من العقوبات, أولها وقف خط الغاز نورد ستريم 2 الممتد من روسيا نحو ألمانيا وهو الامر الذي أعلنت ألمانيا حصوله مؤقتا عبر إعلانها تجميد هذا الخط ردا على اعتراف موسكو بدولتي إقليم دونباس حيث كان هذا الخط يمثل شريانا لأوروبا اكثر منه لروسيا, فروسيا تستطيع بيع غازها ونفطها في آسيا بينما ترتفع التكلفة على أوروبا في حال رغبتها بتعويض هذا النقص, الامر الثاني هو استهداف قطاعات روسية بعينها كقطاع الطاقة وقطاع التصنيع من خلال حرمانها من استيراد التكنولوجيا المتطورة اللازمة لها في عمليات التصنيع وهو الامر الذي سيؤثر على الاقتصاد الروسي لكنه لن يكون قاتلا له ويبقى تأثيره محدوداً في الزمان حيث ان روسيا قادرة على التزود بالتكنولوجيا من الصين ناهيك عن قدرتها على المدى المتوسط في انتاج تكنولوجيا خاصة لن تكون بذات القوة والفاعلية لكنها ستكون قادرة على تحقيق اهداف مرحلية لروسيا, الامر الثالث وهو الأخطر إلغاء وجود روسيا في نظام سويفت العالمي للتعاملات البنكية وبالتالي قطع اي صلة لروسيا مع العالم الخارجي مالياً وبالتالي عدم قدرتها على الاستيراد او التصدير, وبرغم محاولة موسكو انتاج نظامها الخاص المشابه للسويفت الا ان التعامل به ما يزال محليا في ظل عدم رغبة باقي الدول في استخدامه وهذه العقوبات هي التي ستكون مدمرة لروسيا على المدى الطويل وربما تكون أنجع العقوبات عليها, بالإضافة الى ذلك يمكن فرض عقوبات على الافراد والشركات الروسية والعالمية وهو امر لا يحمل اثرا طويلا لكون روسيا تعتمد كثيرا على الاقتصاد الموازي خارج القنوات الرسمية ناهيك عن التقارير التي تشير لعلاقة بين الكريملن وعصابات المافيا الروسية التي يمكن لها حل جزء من مشاكل روسيا الاقتصادية الناجمة عن أي عقوبات محتملة.
هل أوروبا جاهزة لتحمل حرب في هذه الجغرافيا وما يتبع ذلك من خسارة الغاز والنفط الروسي الذي يشكل 40% من حاجاتها؟
كما ذكرت آنفاً فأوروبا تعتمد في 40% من احتياجاتها من الطاقة على الغاز والنفط الروسي, ولتعويض هذه الخسارة بالإضافة الى الخسارة الناتجة عن هذه الحرب المحتملة كقطع الغاز الاذربيجاني وربما العربي والإيراني عبر تركيا فإن أوروبا بحاجة للاعتماد على موردين جدد كالولايات المتحدة والمكسيك وبريطانيا والنرويج بالإضافة الى نيجيريا وبدرجة اقل نفط وغاز الخليج العربي والغاز المصري والليبي والجزائري وهو الامر المعتمد على موقف هذه الدول من الصراع, لكن وبكل الأحوال فإن برميل النفط الذي يقارب اليوم 92 دولاراً امريكا لن يكون بهذا السعر بل يتوقع الخبراء وصوله الى سعر ما بين 125 الى 150 دولارا أمريكياً وبالتالي تعطيل حركة الإنتاج وتوجيه الأولوية الأوروبية الى تلبية حاجة الشعوب من كهرباء ووقود تدفئة ووقود للسيارات, ما يعني خلق مشكلة ربما تكون اكبر بكثير في تأثيرها على أوروبا من ازمة النفط العربي التي تلت حرب تشرين غي العام 1973.
ما علاقة شركات السلاح الامريكية في الاحداث؟
تبين كثير من الدراسات البحثية في العصر الحديث العلاقة التي تربط شركات السلاح والبنوك الامريكية في كثير من الصراعات التي حدثت حول العالم بداية من الحرب العالمية الأولى وصولاً الى حرب فيتنام وحرب الخليج الأولى والثانية, ليكون احتمال تداخل هذه الشركات والبنوك في الصراع الحالي قائماً لا سيما بعد الازمة الاقتصادية الكبيرة الناجمة عن جائحة كورونا, فتحريك الاقتصاد العالمي بحاجة استهلاك كبير للسلاح وللقروض التي تمثل مع الصناعات الرديفة من غذائية وتكنولوجية وغيرها عوامل مساعدة لقدرة الاقتصاد العالمي على التعافي السريع والعودة الى النمو, وهنا اضع هذا الامر من باب الافتراض ليكون عاملا يجب اخذه بعين الاعتبار في محاولتنا لفهم ما يجري.
هل تدفع واشنطن موسكو للحرب؟
بناءاً على الفقرات السابقة فإن الولايات المتحدة لا تبحث عن حرب عالمية ثالثة بكل تأكيد, لكنها بالتأكيد تبحث عن حرب خوف تجاه حلفائها أولا وخصومها ثانيا تحقق لها مصالحها, ولا تمانع الولايات المتحدة من صراعات محدودة هنا او هناك تحرم روسيا من أحلامها في ساحات مختلفة ربما تكون الساحة السورية احدها, من المؤشرات على هذا الامر المصالحة العربية التركية ووقف الدعم الاماراتي لموسكو ومساعدة تركيا لاوكرانيا من خلال تزويدها بالطائرات دون طيار التي اثبتت فاعليتها ضد السلاح الروسي وضد العقلية العسكرية الروسية التي يدار بها جيش النظام السوري والميليشيات الإرهابية التابعة له خلال المعركة المحدودة التي دارت بين الطرفين مؤخراً, لكن واشنطن تعلم ان دفعها نحو هذه الصراعات سيكون له اثمان تكتيكية وربما استراتيجية في عالم جديد ترسم ملامحه على حافة الهاوية الصينية, وهنا لا بد من السؤال هل إدارة بايدن الضعيفة مستعدة لرسم هكذا خريطة؟, ربما تمتلك النوايا لكن تغيب عنها الإرادة الجادة في ظل وجود الصين الدائم في عقل صانع القرار الأمريكي.
ما هو موقف الصين من كل ما يجري؟
تقف الصين على مفترق طرق استراتيجي, فمن ناحية لا تريد خسارة حليف روسي قوي ومن ناحية أخرى لا تريد أي تخريب لمشروعها طريق الحرير الجديد الذي ستنهيه هذه الحرب بكل تأكيد بعد ان استثمرت فيه مليارات كثيرة, نعم ستستفيد الصين من الصراع انتاجياً, لكن هذه الفائدة ستكون عديمة الجدوى في مسارها الاستراتيجي الاقتصادي, حيث ان تركيز العالم على قطاعات لا تشكل نقطة القوة الأكبر للصين مثل قطاع الطاقة وقطاع السلاح سيسحب منها قدرة تنافسية كبيرة, وستصبح مضطرة لبيع العناصر النادرة التي تمتلك نصيب الأسد منها لتعويض هذا الفرق, بينما يشكل بيع العناصر بشكل اعتيادي هزيمة لمشروع بكين الاقتصادي القائم على إحكام الطوق حول الصناعات التكنولوجية الامريكية المعتمدة على هذه العناصر, لذلك تقف الصين حتى هذه اللحظة في المنتصف, فهي تؤكد على تحالفها مع موسكو بينما لا تعترف حتى الان بدولتي إقليم دونباس وتصدر تصريحا واضحا عن احترامها للسيادة الأوكرانية وعدم قبولها لغزو محتمل لهذا البلد, غالب الظن ان الصين ستعمل في الخفاء على نزع فتيل هذه الازمة عبر نتيجة لا غالب ولا مغلوب مع تعظيم المكاسب الروسية عبر القبول باحتلال موسكو للدولتين الجديدتين في إقليم دونباس.
يبقى الصراع خطيراً ومهدداً كونه صراع ذو اذرع كثيرة لا يمكن التأكد من انضباطها في آن واحد, فأي انفلات له في مفصل مهما كان صغيراً ينذر باندلاع حرب كبيرة, الحكمة اليوم هي انتظار اللاعبين الأساسيين لفهم ما يجري دون الالتفات لصغار اللاعبين, واللاعبون هنا هم روسيا والصين من جهة والولايات المتحدة وأوروبا وحلفائهم من جهة أخرى, لتبقى شعوب الأرض أسرى لسياسة يتم لعبها بأكثر الأساليب قذارة منذ فجر التاريخ.