بكل أسف خسرنا معركة الوعي في ثورتنا لصالح مشاهير الصدفة أصحاب الخطاب الشعبوي المتشنج، ممن يمتلكون جهازاً محمولاً ذكياً وبعض الحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، تلك التي كرّسوها منبراً لهم في سعيهم لإرضاء بعض عقد النقص لديهم التي دفعنا نحن جمهور الثورة ثمنها.
هنا لا أقول أننا السبب الوحيد للفشل، لكننا بالتأكيد السبب الأهم, ذلك أننا تركنا وعينا فريسة سهلة لما تصدره وسائل التواصل, فنقبله دون أدنى محاولة للفهم أو البحث أو التقصي, على الأقل أن نتأكد مما يقوله بعض هؤلاء من مصادر أخرى.
لسنا الضحايا الوحيدين لهذه الكارثة, فالكوكب بأكمله بات أسيراً لشاشات الهواتف المحمولة, حيث تغيرت معايير التواصل الاجتماعي نحو الأسوأ ليصبح المجتمع الانساني أكثر فأكثر مجتمعاً رقمياً لا بالمعنى الحداثي, بل بالمعنى الحرفي, فمناسباتنا كلمات وصور وفيديوهات على الشاشات, ومشاعرنا قلوب حمراء واعجابات, وتعاطفنا ودعمنا اشتراك, لم نعد نقرأ في كتاب, أو نقوم بالزيارات, حتى المشاركة في الفعاليات الثورية باتت مشاركة رقمية, فخلت الساحات من حراكنا, وتُرك أمرنا لساسة بلا ضمير في غرف مظلمة خلف الستار.
أسهل ما يمكننا القيام به هو فتح بث مباشر على وسيلة ما, والانطلاق بما نريد أو لا نريد, حتى أننا لا نكلف أنفسنا تصحيح أخطائنا ناهيك عن الاعتذار عنها مهما كانت النتائج قاسية وسيئة, فلا مجتمع يحاسب, ولا قانون رادع, ولا حتى ضمير يخزنا عندما نخطئ, فكل شيء رهين بالترند القادم الكفيل بتحويل الانتباه عن أي خطأ.
وسائل التواصل هي سيل جارف من المعلومات التي لا يمكن الحصول عليها بالوسائل التقليدية, فهي تعطي معلومات دقيقة عن كل شيء في المجتمع, ماذا يحب وماذا يُبغض, بل إنها قادرة على التنبؤ بتوجهات هذا المجتمع أو ذاك تجاه أمر يتم التخطيط له, فانخفض جدارنا وبات سهلاً لأي عابر أن يتجاوزه دون بذل أي مجهود, كيف لا وحارس الوعي قد مات من برده ووقف مكانه المؤثرون.
وكي لا يكون الكلام مرسلاً, فقد قام أحد الأشخاص بحملة لتوفير أموال للاجئين في الشرق الأوسط وأفريقيا, وقد نجح في جمع قرابة 11 مليون دولار أمريكي بالتعاون مع المفوضية السامية للاجئين, لتنشر المفوضية خبر الحملة وتقول أن نصف هذا المبلغ سيوجه لدعم وصولها للعوائل الاكثر احتياجاً, ليتلقف "مؤثرونا" الكلمة لينشروا سيلاً من المعلومات الغبية حول الحدث, فجعلوا اسم الشاب أبو فُلّة بينما اسمه أبوفَلّة, ثم جعلوا الحملة موجهة بالكامل لأهلنا في المخيمات السورية بينما الحملة هي لهم ولغيرهم من اللاجئين, ثم جعلوا النصف الذي ذكرته المفوضية لرواتبها وتمويلاً لعملياتها برغم أن البيان كان واضحاً, لتنطلق بعدها حملة من التشهير بالحملة والتسخيف بفعل الشاب والدعاء بالفناء على من يتاجر بأهلنا.
وبرغم كل مشاكل المفوضية ومساوئ عملها ودعمها بشكل مباشر أو غير مباشر لنظام الارهاب في دمشق عبر الاموال إلا أن الشيطنة كانت من باب كاذب يحمل دليلاً على انعدام الوعي, ليصبح بعده السؤال الأكثر شعبية لماذا لم يعمل الآخرون من أجلنا؟ ولماذا توقف الجميع عن دعمنا؟
لقد كنّا أسوءمن حمل قضية في التاريخ, فلا نحن دافعنا عنها, ولا تركنا الآخرين يتعاطفون معنا, فذهبت ريحنا كما تذهب الصرخة في واد, فأنّى لأحد أن يساعدنا ونحن الذين لم نساعد أنفسنا, برغم كثير من الصرخات المكتومة التي أطلقها أهل الثورة الذين امتلكوا الوعي, إلا أن أصواتهم كانت تواجه دائماً بالترند السخيف الجديد الذي جعل تلك الأصوات زوبعة في فنجان.
سئمنا الشكوى, بل التهبت أصابعنا وهي تشير إلى مواطن الخلل دون جدوى, لتبقى ثورتنا في القلوب فقط, بعد أن قتل انعدام الوعي فعلها وأثرها على الأرض, ليعيش مجتمع العبيد, مجتمع المواطنين المستقرين, أولئك الذي يمجّدون أي حاكم يوفر لهم الكلأ والمرعى دون أدنى شعور بالآخرين.