خالد بريش
لم يكن من السهل فهم ما حدث طوال هذه السنوات من عمر الثورة السورية، وما مرت به من منعطفات وتحولات، يعتبر بعضها من المستحيل فهمه واستيعابه، وبعضها الآخر يدخل تحت خانة العبث، بكل ما لهذه الكلمة من معان.. غير أن اندلاع «طوفان الأقصى»، على أرض فلسطين في السابع من أكتوبر، وما كشفه فيما بعد من تحالف مقدس بين كل أنظمة الغرب الاستعمارية، والكيان الصهيوني الاستعماري الغاصب، والدفاع المستميت عن هذا الكيان الصهيوني وبكل الأساليب والوسائل والطرق، جعلنا ندرك بما لا يدع من مجالا للشك، أن المفاتيح لم تكن في سوريا الوطن، ولا في أيدي الشعب السوري، أو في أيدي نظام الأسد، وحتى ليس في كل بلداننا العربية… بل كانت وللأسف في أيدي الغرب، الذي اتضح أنه ما زال يستعمر بلادنا عبر وكلائه الصهاينة، وحكامنا أيضا.. وأنه ما زال يمسك بكل الأوراق، ويحرك الخيوط في المنطقة طبقا لمصالحه الاستراتيجية الآنية والمستقبلية…
لقد كشف طوفان الأقصى كل الأوراق، وما كان مجهولا بالنسبة لكثيرين. وكشف بالتالي أهم سبب في فشل الربيع العربي وخصوصا في سوريا، والمتمثل في التقاء مصالح الأنظمة الدكتاتورية العفنة في بلادنا، مع مصالح الكيان الغاصب، ومن ورائه الغرب الاستعماري. وأصبح واضحا بالنسبة للجميع الذين هم خارج زمرة «عبيد الأنظمة»، وعبيد الاستعمار.. أن المشكلة كانت في نسج خيوط العلاقة مع الكيان الصهيوني، ورضاه عن هذا التغيير الذي سيطرأ.. وأن كلمة السر لم تكن في حِذْق أنظمتنا وقوتها، أو في قوة مخابراتها، بل في تحالفاتها وتفاهماتها الغير معلنة، والتي لا تمت بصلة لا لمصالح الأوطان، ولا الشعوب…
كان زخم الثورة في أشهرها الأولى قويا جدا، لم يُتح للقيمين عليها التفكير مليًا بالأمور، ورسم الخرائط الاستراتيجية والاقتصادية للعالم والمنطقة وتقاطعاتها، وموقع سوريا ودورها فيها، وما قيل في هذا المجال لا يخرج عن الإنشائيات، والمقالات الصحفية السطحية.. لقد انشغل الثوار في يوميات الثورة، ومتاهة بحار الدماء والدمار التي أدخلهم فيها النظام الفاشي والقمعي، والذي لا يقبل أن يُشاركه أحدٌ بدور البطولة، أو حتى بمجرد رفع رأسه أمامه… مع أن الموضوع كان في منتهى السهولة، فيما لو استطاع أرهاط الثورة وقياداتها الإجابة عن السؤال الأحْجية بما يرضي تطلعات الغرب، ومستقبل مصالحه في المنطقة، وبالأخص تلك الدول التي صدعت رؤوسنا بالديمقراطية وحقوق الإنسان. وهذا السؤال الذي لم يفصحوا عنه، كان يتمحور بشكل أساسي حول ربيبتهم «إسرائيل»، هذا الكيان الغاصب، الذي صنعوه وفبركوه على المقاس، لكي يكون ممثلًا لمصالحهم على كل المستويات، وكمحطة صليبية عسكرية وتجسسية، تعيق تقدم بلادنا، ووحدة أمتنا، وتطلعات شعوبنا، وتضبط إيقاع حركة الأنظمة القائمة، وكل المنطقة على وجه العموم…
لقد هب الشعب السوري في آذار النوار، رافضا الطائفية والمذهبية والقمع والسجون وسرقة مقدرات الوطن وخيراته، مطالبا بحقوقه، وبالديمقراطية والحرية والعدالة… بل تخطت تطلعاته وأحلام جماهيره كل ذلك، فتحدثت وبوضوح عن انتزاع للاستقلال الحقيقي من بين أنياب الدول الغربية، وإيقاف العبث بمصير سوريا الوطن… ولم يبخل الشعب السوري الأبي في سبيل تحقيق ذلك، فقدم أعز ما يملكه، من دماء زكية، وأرواح طيبة طاهرة، فداء لثورته، وقام بكل واجباته الثورية والإنسانية والوطنية على أتم وجه، وأظهر عن وجه مشرق وحضاري إلى أبعد الحدود، وعن وعي بمقدرات سوريا ودورها الريادي في المنطقة… وهو ما أزعج الغرب الاستعماري حقا، لأنه حشره في الزاوية، فأسقط في يده في مرحلة من المراحل.. فما كان منه إلا أن أعلن عن تأييده لثورة الشعب السوري مراءً ونفاقًا وعلى مضض، لأن مسيرة الثورة كانت ناصعة، وتعبر عن الشعب السوري بكل شرائحه، وذلك بانتظار أن يقول النظام كلمته.. لأن هذه الثورة النظيفة، لا تلتقي بأية حال من الأحوال مع مصالحه، التي يمثلها الكيان الغاصب، والذي يجب الخضوع لأوامره وأمانيه، وكذلك المحافظة عليه بكل الطرق والوسائل…
وعند هذه النقطة بالذات، بدأت تحدث الفجوة وتتسع، وخصوصا أن النظام السوري قدم في الماضي للغرب ولربيبه الكيان الصهيوني الغاصب خدمات لا تقدر بثمن، ويكفيه فخرا أنه وهبه الأمن والأمان على حدوده على مدار عقود، وفوق ذلك، وهبه «الجولان»، وماءه وخيراته وموقعه الاستراتيجي، على طبق من ذهب.. وأنه لا يخالف للغرب طلبا، إلا بالجعجعة الإعلامية فقط لا غير.. وعاش بالتالي على مدار سنوات باستقرار وأمان، لا يخاف على كرسيه من الاهتزاز، أو الهزات المفاجئة أقصد «الانقلابات». مما يعني أنه لا يمكن للغرب أن يضحي به، وإن كان أصلا، لا يعرف الوفاء والإخلاص لعبيده، ككل المستعمرين…
ولكون الشعب السوري قام بثورة نظيفة من أجل التغيير الجذري، وعلى كل المستويات… فإنه لا يمكنه أن يتجاهل بأية حال من الأحوال الجولان المحتل، والمغتصب من قبل الكيان الصهيوني. بل كان الجولان واستعادته وتحريره، محور بيانات كثير من قيادات الثورة السورية. ولهذا فضل الغرب في نهاية المطاف التعامل مع من يعرف وخَبُر، ومع من قدم له خدمات كانت تفوق توقعاته دائما، ولأنه أيضًا، لا يحب المراهنة، ولعب أوراق لا يعرف لونها وحقيقتها، ولا يعرف إلى أين ستوصله… خصوصا أن مثالية شباب الثورة السورية كانت في أعلى مستوياتها، وكانوا يعيشون حالة من الزهو والفخر، مصحوبة بنوع من عدم الخبرة، مما أبعدهم عن السؤال الصعب الذي كان ينتظرهم، والذي من الممكن اختزاله في « إسرائيل »…!
قلة من بين رهط الثورة السورية وقياداتها كانوا على وعي بموضوع الكيان الصهيوني، ودوره، وتأثيراته على مستقبل ثورتهم، لكنهم فضلوا تأجيل الموضوع إلى حين وضوح الرؤية، ونجاح الثورة، والخلاص من النظام الطائفي السفاح.. وبعدها لكل حادث حديث… هذا في الوقت الذي تركوا فيه الساحة للنظام وعن غير وعي منهم، لكي يمارس لعبته التي يجيدها بمهنية، وهي «الابتزاز»، فأخذ بعض أزلامه، ورجال مخابراته المندسين في صفوف الثورة، يلعبون بالنار كما يقال، تارة من خلال يافطات تعلن أن دور الكيان الغاصب قادم، وأن تحرير الجولان سيكون بعد الخلاص من النظام.. وتارة أخرى عبر ملصقات وصور عبر منصات وسائل التواصل الاجتماعي الخاصة بالثورة السورية، والتي كثير منها لا يُعْرف صاحبها، ليدفع النظام فيما بعد إلى الحدود بمجموعات كبيرة من المساكين الأبرياء المندفعين المشتاقين إلى أرض فلسطين وتراب الجولان الأبيّ، لكي يَعْبُروا الحدود، فكان عرسًا وطنيا تعمَّد بالدم الزكي الذي روى أرضا عطشى.. ومع ذلك عمّ فرح تلاقت فيه الأرواح العروبية، التي أكدت عن أصالة الشعب السوري، وإصراره على تحرير هذه البقعة المحتلة من تراب وطنه، التي تفصلها عنه الأسلاك الشائكة، واتفاقيات لا يعلم أسسها وتفاصيلها، إلا الكيان الغاصب والنظام الفاشي فقط… ولكن كانت هذه اللعبة الخبيثة من النظام رسالة واضحة بما يمكن أن يفعله، فيما لو…!
وهكذا وجد الربيع العربي نفسه أمام حائط وسد منيع اسمه «الكيان الصهيوني» الصليبي الاستعماري، وبالتالي عود إلى المعادلة التي كان كل العروبيين والمفكرين في بلادنا يتحدثون عنها في كتاباتهم وأدبياتهم في مراحل سابقة، وكنا نستخف بها في غالب الأحيان ولا نلقي لها بالا… وليأتي «طوفان الأقصى»، ويؤكد ذلك من جديد، وبوضوح شديد…
رحم الله شهداء الثورة السورية.. وشهداء فلسطين.. وكل شهداء أمتنا آمين…