حقيقةً، لو كنتم منصفين قليلاً، لأدركتم واعترفتم بأننا الأصحاب الشرعيون للسلطة الحالية. وأما عن سبب عدم تواجدنا في السلطة وفي إدارة دفة الحكم فهذا يرجع لسوء حظنا من جهة، ولخطأ بسيط ارتكبناه من جهة أخرى.
لقد قمنا بالثورة واستلمنا السلطة ولكن مع الأسف، لم يسمع بثورتنا أي إنسان، كما هو معلوم، لايمكن أن تنجح ثورة ما وتستمر مالم تسمع بها الجماهير العريضة. فكروا قليلاً واستنتجوا كم هو مأساوي موقفنا، في ليلة واحدة قمنا بالثورة وسقطت السلطة بيدنا، ولكننا لم نستطع إخبار أحد الجماهير باستلامنا للسلطة!.
ثقوا تماماً بأننا حسبنا كل شيء بدقة تامة، لدرجة أننا أخذنا بعين الاعتبار أصغر الأمور وأقل الاحتمالات، كما أنني واثق من أنه لم تُدرس ثورة قامت قبل هذا التاريخ مثلما درسنا ثورتنا، إذ أنها تمت دون أخطاء، غير أننا نسينا أمراً بسيطاً للغاية... نسينا "النظر إلى التقويم"!.
نعم، لو أننا نظرنا إلى التقويم لما غاب عن أذهاننا بأننا في منتصف شهر تموز، ويعني ذلك أن الجو في هذا الوقت بالذات سيكون ماطراً في "أوفريكا". ربما يكون الهيجان والاضطراب الذي أصابَ الأصدقاء في لجنة قيادة الثورة هو الذي منعنا من الاستماع للنشرة الجوية من الإذاعة، ولم نفكر بالاتصال بإدارة الأرصاد الجوية لمعرفة أحوال الطقس.
هل تعلمون ماذا يعني هطول الأمطار ولو بشكل طفيف في "أوفريكا" وفي منتصف تموز؟ إنه يعني توقف الحياة والشلل التام للبلد . فحالما تهطل أول قطرة من السماء، تتعطل الإذاعة وشبكة الهواتف وتقطع الماء والكهرباء والغاز وتتعطل حركة البواخر والقطارات والطائرات والباصات والسيارات.
ولكننا ولسبب وجيه وجدنا الفرصة سانحةً لقيام الثورة، وهذا السبب هو الحرارة العالية التي تعم أنحاء أوفريكا مما يجعل عاصمتنا "متراك بوليس" خالية من السكان إلا من بعض الفقراء ال1ين يبحثون عن لقمة العيش. أما الوزراء ورجالات الدولة والهشصيات المعروف في اوفريكا وعائلاتهم المحترمين الذين لا يحتملون حرارة الطقس، فهؤلاء يذهبون إلى المدن الجبلية أو إلى المناطق الريفية ولايبقى أحد في الدوائر الحكومية بالعاصمة إلا بعض البوابين النائمين على كراسيهم أمام كل دائؤة. أي ان الدوائر الحكومية تكون خالية تماماً حالياً. في وضع كهذا لايبقى على الثوار كي يستولوا على الحكم، إلا فتح الغرف والدخول إلى الدوائر. يستطيع كل مواطن في وقت كهذا_ إن كان يشعر بالملل_ القيام بثورة. إذ يكفي أن يقول: هيا يا أصدقاء لنعمل ثورة.
مازالت الدهشة تصيبني، كلما تذكرت ماحدث، فكيفَ نحسُبُ كل شيء وننسى هطول المطر في منتصف شهر تموز في "أوفريكا"...أي حماقة هذه يا إلهي؟!.
وُزّعت المهام على أعضاء الثورة كمايلي: أنا والعميد حجاب والملازم أول البوّال سنهاجم الإذاعة. الفريق أول حسين مع ثلاثة من أصدقائه سيخاجمون مطعم الطعام اللذيذ، القائمقام محمد مع أربعة من أصدقائه سيهاجمون مركز البريد وغرف نوم المرسة الثانوية الداخلية للبناتظظن أما الهجوم على الملعب البلدي والمسلخ فقد كلف به خيام باشا وفرقته العشارية.
باختصار وزعنا مهام الاستيلاء على المراكز الحساسة على أعضاء مجلس قيادة الثورة، ولم ننس أن نكلّف موظف سرية التأديب كورحميد (متقاعد الآن) بمهمة الاستيلاء على السجن. وذلك كي يؤمن الأماكن الممتازة في السجن لأعضاء قيادة الثورة إذا مافشلنا بمهامنا، أي أننا أخذنا أدق الأمور وأصغرها بعين الاعتبار.
وفي ساعة الصفر، تحركنا للاستيلاء على الدوائر الحكومية، قال العميد شهاب الجناب، وهو من مجلس قيادة الثورة: "يجب ألا نستولي على المصرف المركزي". ولما سأله الفريق أبو الفضال عن السبب أجاب: "كي لانهدر قواتنا بتوزيعها على أماكن عديمة النفع مثل وزارة المالية والبلدية والدوائر العامة مثل النفوس والإحصاء". وبعد أن أحصينا الدوائر عديمة النفع في بلدنا لم يبق أية دائرة ذات فائدة تستحق الهجوم عليها. فقال العميد أبو الحجاب:" إذا كنا لانريد الاستيلاء على الدوائر الحكومية بحجة أنها عديمة النفع، فلنتراجع عن القيام بالثورة". فقال القائمقام بهلول: "يا أصدقاء يجب ألا ننسى أننا نقوم بهذه الثورة لأن دوائرنا الحكومية لاتنفع لأي شيء". وبذلك حددنا الهدف الذي ستقوم الثورة لأجله.
اتفقنا على أن يتصل الاصدقاء بي هاتفياً فورا استيلائهم على الدوائر الرسمية، وأنا بدوري سأخبر أهالي أوفريكا بنجاح الثورة عن طريق الإذاعة. وقد كلّفني الأصدقاء بمهمة الحديث الإذاعي لخشونة صوتي.
وعندما قررنا التحرك قال الملازم أول ابن البوّال: "لنر إن كان الأمريكيون موافقين على قيام هذه الثورة، لأن احتمال نجاح أية ثورة لايرضى عنها الأمريكيون معدوم. فقررنا إثر ذلك تشكيل لجنة رباعية مؤلفة مني أنا شخصياً وثلاثة من الأصدقاء، وذهبنا لمراجعة السفير الأمريكي.
عندما دخلنا إلى السفارة شاهدنا خمسة أشخاص يخرجون من مكتب السفير، فاعتقلناهم على الفور، ولولا اعتقالنا لهم لقاموا بالثورة قبلنا واستلموا الحكم. استقبلنا السفير استقبالاً لائقاً. قال صديقنا الذي يتلكم الأمريكية : "ياشباب، مصيبة وقعت على رؤوسنا، لا أتسطيع تذكر معنى كلمة ثورة باللغة الأمريكية، أيوجد بينكم من يعرف؟". في الحقيقة كنتُ أعرفُ معنى كلمة ثورة باللغة الامريكية ولكني نسيتها بسبب الاضطراب الذي أصابني. قلنا للسفير أننا ننوي القيام بشيء ما. ولكن مالم نستطع شرح ماهو هذا الشيء. وحينما حاولت أن أشرح لهُ معنى كلمة ثورة بإشارات من يدي، فهم من إشاراتي فهماً خاطئاً وغضب كثيراً. المهم أننا استطعنا بعد عناء ان نشرح لهُ مرامنا. فقال السفير: "إن نجحتم سندعمكم وإن فشلتم فإننا سنواصل دعمنا للحكومة الحالية".
بعد أن أخذنا موافقة الأمريكان توزعنا على أعمالنا من أجل إتمام الثورة.
دخلنا إلى مبنى الإذاعة ونحن نهز أيدينا إلى الأمام وإلى الخلف لأننا لم نواجه بأي مقاومة، وبدأنا ننتظر الأخبار التي ستصلنا من الأصدقاء بواسطة الهاتف.
مرّ على موعد الاتصالات ثلاثة ساعات ولم يأتينا أي خبر فأصبنا بالقلق والاضطراب، لأننا إذا افترضنا أنهم أعتقلوا أصدقائنا فيجب أن نعرفَ أنهم سيهاجمونَ الإذاعة ويعتقلوننا أيضاً. فقررنا بناء على ذلك أن نجيب على قوات الحكومة إن سألونا: "ماذا تفعلون هنا؟". بأننا نريد تقديم حفلة موسيقية ونريد أن نعزف بعض الأناشيد الوطنية ولكننا هنا أيضاً اكتشفنا مصيبة جديدة إذ لايوجد بيننا من يتقن عزفَ أي آلة موسيقية. ومع ذلك فقد بحثنا في الغرف وأحضرنا الآلات الموسيقية الموجودة فيها.
أنا، وجدتُ طبلاً فأحضرته وبدأت أتدرّب عليه ووجدوا أحد الأصدقاء دفاً، وآخر لا أعرف اسمه وجد بزقاً.
قلت للعميد أبو الحجّاب: إذاهبوا واستقصوا الأخبار، تُرى، هل استولى الأصدقاء على السلطة؟!.
مشى العميد بخطوات عسكرية وغاب في عتمة الليل، ولم يعد بعد ذلك. ولما لم يأتِ منه خبر أرسلتُ الملازم أول ولكن الآخر لم يعُد أيضاً. صرتُ أرتجفُ خوفاً من احتمال فشل الثورة. لقد وجدتُ أفضل حل هو الذهاب إلى السلطة وإخبارها بغندلاع الثورة وبذلكَ أكونُ قد أنقذت نفسي. وأنا في هذه الدوامة قال لي آخر من بقي معي من الأصدقاء:
- لاشك أن الأصدقاء استولوا على الحكومة في هذه الساعة.يجبُ عليكَ إخبار المواطنين بواسطة الإذاعة باستيلائنا على السلطة كي لاتحصل أية تغييرات تؤدي إلى حدوث الاضطراب عند السكان.
فقلت: إن إذاعةَ خبرٍ كهذا، في غاية السهولة، ولكن ماذا سنفعل إن تم اعتقال أصدقائنا وأودعوا السجن. ألن يكون إعلاننا الثورة شيء مثير للضحك؟.
بعد قليل انقطع التيار الكهربائي، فظننتُ أنهُ قد حدث تماس في الدارات، ولكننا فهمنا بعد ذلك أن التيار الكهربائي قد انقطع فعلاً.
نزلتُ إلى الشارع فلم أر أي ضوء في المدينة، ولم أجد واسطة نقل، فاضطررتُ للذهاب إلى مجلس الوزراء مشياً على الأقدام. وجدتُ هناك العميد أبو الفضال. فسألته: ماذا حدثَ يا أبا الفضال؟
- فأجاب: لقد اعتقلتهم.
فقلت: من اعتقلت. الحكومة؟!
- كلا. لقد اكتشفتُ لجنةً ثوريةً أخرى تحاول قلب الحكومة. كانوا ينوون القيام بثورة في هذه الليلة. فاعتقلتهم قبل أن اعتقل هيئة أركان الحكومة. لأنه يتوجبُ علينا ألا نسمح لأحد بأن يسبقنا للقيام بالثورة.
فهمتُ فيما بعد، من الأخبار الواردة إلينا، انه تم اكتشاف أربعة لجان ثورية، غير لجنتنا، وكلهم كانوا يحاولون القيام بالثورة في نفس الليلة.
قلتُ للعميد زهوري: لمَ لم تخبروني عن نجاح الثورة بواسطة الهاتف؟!.
فقال: وكيف سنخبرك والهواتف معطلة.
- كان يتوجبُ عليكم عدم قطع كل الهواتف.
نحنُ لم نقطعها، هلطلت في المساء بضع قطرات من المطر أدت إلى قطع الخطوط الهاتفية.
- ألم تستطيعوا إرسال أحدهم بالسيارة؟!
نقولُ لك: هطلت الأمطار ... ألا تفهم؟ ألا تعرف أن حركة السير تتوقف في "أوفريكا" بشكل كلي عندما تهطل الأمطار.
- حسناً، وماذا سنفعل الآن؟ جماهيرُ أوفريكا لم تسمع باستلامنا للسلطة.
بسط العميد زهوري خريطة الحركة فوق الطاولة ووضع فوقها أحجار الشطرنج وخاضب أبا الفضال قائلاً: لقد شُلّ تفكيري، ولن أقوى على التفكير قبل أن ألعب قليلاً بالشطرنج، فتفضّل إلى رقعة الشطرنج ياسيدي العميد.
أما بالنسبة لي، فقد استلمتُ الطريق متجهاً إلى دار الإذاعة من أجل إخبار الجماهير باستلامنا للسطلة. وفي الطريق قابلتُ المقدّم حبيب، وكان يضع المسكين حذاءه تحت إبطه كي يستطيع السير في وحل الطريق، وعندما رآني بادرَ قائلاً:
- انظر إلى هذا المنظر، لقد أجبرونا على القيام بالثورة.
وبعد ذلكَ أخبَرني بأنه استولى على وزارة المالية وعلى الخزينة غير أنه وجدها فارغة فتركها دون حراسة واستولى أيضاً على وزارتين أُخريين.
وقال الفريق خيام باشا: لو كنتُ أعلم بأن القيام بالثورة سهلُ لهذا الحد لما انتظرتُ كل هذه السنين. بل كنتُ قمتُ بثورة مذ كنتُ برتبة وكيل ضابط، ورفعتُ نفسي مباشرةً إلى رتبة مشير.
بدأتُ بترديد نشيد "أمِن السهل خداع شعبي" مع الأصدقاء الذين التقيتهم في الطريق وذهبنا سوية إلى دار الإذاعة.
بدأت أتكلمُ بصوتي الأجش معلناً نبأ قيام الثورة للأوفريكيين...
قاطعني القائمقام وقال: إنكَ تصرخُ دون فائدة. يوجدُ عطلٌ فني في محطة الإذاعة بسبب هطول المطر.
حسناً وكيف سنخبرُ المواطنين بأننا استولينا على السلطة؟ من غير المنطقي إخبارُ المواطنين فرداً فرداً.
فقالَ أبو الحجاب: لقد عادت الخطوط الهاتفية للعمل. لنخبر بعض الأفراد بواسطة الهاتف وهم بدورهم يخبرون الآخرين.
وعلى الفور طلبَ رقماً لا على التعيين وبدأ يتكلم..
يجبُ على كل عضوٍ من أعضاء مجلس الثورة أن يكون تحت المراقبة ولهذا فقد أمسكَ كل منا سماعة الهاتف وبدأنا نستمعُ للحديث الهاتفي الذي يجرية أبو الحجاب.
قال أبو الحجاب: نحنُ أعضاء مجلس قيادة الثورة.
فسألهُ الصوت النعسان: ماذا؟ مجلس ماذا؟
وبعد ذلك جرت المكالمة التالية بينهما...
- لقد استولينا على الحكم.
-يا إلهي .. الله يوفقكم .. كم انتظرنا شخصاً ما ليقلب هذا النظام ويخلصنا من مصائبه.. من أنتم؟
- أنا العميد أبو الحجاب من أعضاء مجلس قيادة الثورة، ونريدُ أن نخبركم باستيلائنا على الحكم، نرجوا أن تخبروا أصدقاءكم.
-من أينَ تتكلمون؟
- من دار الإذاعة ... ومن أنتم؟
-أنا الصدرُ الأعظم مختار باشا.
فقال العميد أبو الحجاب "من ن ن ...؟" وسقطَ مغمياً عليه.
لقد حدث تماسٌ في خطوط الهاتف فبدلَ أن يطلب أحد المواطنين طلبَ الصدر الأعظم وأخبرهُ بقيام الثورة.
قال الملازم أول محمد: يالسوء حظنا، لن يسمع أحد باستلامنا للسلطة.
فقال خيام باشا: دعكَ من هذا .. بعد قليل سيأتون لاعتقالنا.
فسألتهم: ولماذا لم تعتقلوا الصدر الأعظم؟.
فأجابوا: لأن السيارات لم تستطع السير بسبب المطر.
وبعد ذلك افترقنا وذهب كل واحدٍ منا إلى وظيفته. ذهبتُ إلى مكتبي في وزارة الدفاع، وغبتُ بين الأوراق والملفات، وبعد برهةٍ طلبني السيد المدير إلى مكتبه وقال لي:
- يؤكد التقرير الذي قدمهُ مخبرنا السري أنه لولا هطول المطر ليلة أمس لاستطاع الثوار الاستيلاء على السلطة وقلب النظام الحاكم، هذا هو التقرير، أريدُ تحقيقاً كاملاً حوله.
سألته: هل نعتقلهم؟
فصرخَ السيد المدير قائلاً: ولماذا؟ بالعكس تماماً. سنتصرف كما لو أننا لم نسمع بأي شيء، قد ينجحون في المرة القادمة وينقذون البلد من مصائب هذه السلطة الحاكمة ولكم لا تنسوا تجهيز الطائرات التي سنهرب فيها.
هاقد مضى على قيامنا بالثورة خمسُ سنوات، حقيقةً، يجب أن تكونَ قيادة البلد لنا، لأننا نحن الذين قلبنا الحكومة القديمة واستولينا على الحكم، ولكن مانفعُ استلامك السلطة مالم تسمع بك الجماهير.
يالشعب "أوفريكا" المسكين، إنهُ يعتقدُ بأن الحكومة التي تحكمهُ حقيقيّة، ولا يعرفُ بأنها مزيّفة، لأن هذه السلطة قد قُلبت منذ خمس سنوات.
وصيتي الأخيرة لكل الذين يريدون القيام بالثورة في "أوفريكا" أن يختاروا ليلةً غير ماطرة وأن يخبروا الحكومة بشكلٍ سري عن عزمهم على القيام بالثورة.