أعلنت وزارة الثقافة إدراج “البِشْت” أو البردة الرجالية التقليدية على القائمة التمثيلية للتراث الثقافي اللامادي لدى منظمة اليونسكو، وذلك خلال الدورة العشرين للجنة الحكومية الدولية لصون التراث اللامادي المنعقدة في نيودلهي، الهند، بين 8 و13 كانون الأول 2025.
وجاء الإعلان الرسمي عبر حسابات الوزارة، التي أكدت أن هذا الإدراج هو ثمرة عمل عربي مشترك تقدمت به تسع دول، هي: سوريا، قطر، السعودية، البحرين، العراق، الأردن، الكويت، عُمان، والإمارات.
وبهذا الإنجاز تصبح سوريا أمام عنصرها التراثي الثامن المسجّل في قوائم اليونسكو غير المادية، في خطوة تؤكد استمرار حضور التراث السوري الحي في ذاكرة العالم، وتبرز دوره في تشكيل الهوية الثقافية لمنطقة تمتد من ضفاف الفرات حتى سواحل الخليج.
من دفء الصحراء إلى رمزية السيادة
عرف العرب البِشْت منذ قرون طويلة تحت مسميات مختلفة مثل البردة والعباءة، وكان دوره الأساسي حماية الجسد من برد ليالي الصحراء، ولذلك صُنع في بداياته من الصوف السميك أو من الجلد، أو من خليط يجمع بين المتانة والدفء. وكانت هذه الوظيفة العملية كافية لتحوّله إلى جزء من ملامح الحياة البدوية في الجزيرة العربية وبادية الشام.
ومع مرور الزمن، بدأت رمزية البِشْت تتغير. فمع ازدهار التجارة وتوسع المدن العربية وظهور طبقات اجتماعية نافذة، أصبح البِشْت لباس الوجاهة والهيبة، يرتديه شيوخ العشائر والوجهاء والشخصيات الاجتماعية ذات المكانة.
ومن المواد الخشنة والثقيلة، انتقل إلى أقمشة ناعمة، خفيفة، ورقيقة تُنسج بعناية، غالباً بألوان الأسود والبني والبيج، لتتناسب مع المناسبات الاحتفالية والرسمية.
كما ارتبط البِشْت بحضور سياسي وثقافي متصاعد في القرن العشرين، مع ظهور الدول الحديثة في المشرق والخليج، حيث بات لباس القادة والمسؤولين في الاحتفالات الوطنية والمناسبات الرسمية، ومظهراً من مظاهر الجاه والسلطة والاحترام الاجتماعي.
الشماخ والعباية… اللباس الذي تحوّل إلى رمز
لم يكن البِشْت وحده في هذه الرحلة، فالشماخ والعباية أيضاً أدّيا دوراً وظيفياً في حماية الإنسان من الشمس والبرد، قبل أن يتحولا، مثل البِشْت، إلى رموز أصيلة للهوية العربية. و ظهر ذلك بوضوح في حدث عالمي حين ألبس أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، اللاعب "ليونيل ميسي" العباية العربية لحظة تسلمه كأس العالم لكرة القدم عام 2022، وهي لحظة صنعت نقاشاً عالمياً واسعاً حول معنى الهوية، والرموز، والتقاليد في عصر الصورة.
البِشْت في سوريا… حضور عشائري عميق الجذور
وفي سوريا، يحتفظ البِشْت بحضور قوي بين العشائر العربية في البادية السورية والجزيرة والفرات، وحتى في المضافات والمناسبات الكبرى في دير الزور والرقة والحسكة وتدمر. وهو علامة اجتماعية تدل على القيادة والمكانة، يرتديه الشيخ أو كبير العائلة في الأعراس، المجالس العامة، والمناسبات الرسمية.
ويروي وجهاء من المنطقة أن البِشْت كان وما يزال يُهدي عند المصالحة أو طلب الجوار أو تكريم الضيوف الكبار، ما يضفي عليه قيمة رمزية تتجاوز الشكل إلى وظيفة اجتماعية تنظم العلاقات بين القبائل والعشائر.
كما يمثل البِشْت جزءاً من المشهد الاجتماعي التقليدي في أرياف حمص وحماة وحوران، حيث يترافق ارتداؤه مع الأعراس والمناسبات الكبرى، ما يعكس امتداد هذا التراث من البادية إلى الريف السوري بجميع تنوعاته.
قيمة توثيقية… وتراث يوحّد ولا يفرّق
إن إدراج البِشْت على قائمة التراث اللامادي للإنسانية لا يكتفي بحماية قطعة لباس تقليدية، بل يوثق منظومة كاملة من المعارف والمهارات وطرائق الحياكة، ويصون ذاكرة المجتمعات التي ارتبطت به عبر القرون. كما يشكل هذا الإدراج دليلاً على أن التراث العربي مهما اختلفت التسميات والتقاليد، يملك جذوراً مشتركة تتجاوز الحدود السياسية.
ويدل الملف الذي تقدمت به الدول التسع إلى اليونسكو على إدراك عربي متزايد لأهمية التراث غير المادي باعتباره قوة ناعمة تسهم في تعزيز حضور المنطقة على الخريطة الثقافية العالمية، وتعيد الاعتبار لرموز قديمة حافظت على دورها حتى العصر الحديث.
نحو مستقبل يحفظ الذاكرة
يأتي إدراج البِشْت في وقت تتسارع فيه متغيرات الحياة وأنماط اللباس، ما يجعل توثيقه ضرورة للحفاظ على جزء من الهوية المادية والمعنوية للشعوب العربية. وفي سوريا تحديداً، التي فقدت كثيراً من موروثها خلال سنوات الحرب، يمثّل هذا الإدراج خطوة مهمة في سبيل إعادة الاعتبار لتقاليدها، وتشجيع الجيل الجديد على اكتشاف تراثه.
وبينما تُختتم أعمال الدورة العشرين للجنة صون التراث اللامادي في نيودلهي، يبدو أن البِشْت صار وثيقة هوية عربية مشتركة، تحكي قصة الإنسان العربي عبر الزمن… قصة دفء الصحراء، ووجاهة الشيوخ، واحتفالات الشعوب، وتراث لا يزال حيّاً في الذاكرة الإنسانية.