خطفت نادين أيوب الأنظار خلال مشاركتها في مسابقة "ملكة جمال الكون" في تايلاند بثوب حمل تفاصيل الذاكرة الفلسطينية بدقة لافتة.
التصميم ابتكرته نيفين القاضي، جمع بين نقوش التطريز التقليدي ورموز القدس وأغصان الزيتون التي طبعت حضور فلسطين أمام العالم.
انتشار صور الإطلالة أثار موجة من التعليقات الإسرائيلية التي ادّعت أن الفكرة "مأخوذة من تراثهم" ( كعادتهم) .. وكما يحصل في كل ظهور فلسطيني لافت، عاد الجدل ليكشف امتدادًا طويلًا لمحاولات السطو الثقافي.
إحدى التغريدات الإسرائيلية التي لاقت رواجًا قالت:
"إنهم حرفيًا يريدون احتلال دولة قائمة. في كل شيء يحسدوننا لأنه ليس لديهم تراث!"
هذا الخطاب يعكس حالة إنكار تُخفي هاجسًا واضحًا: الخوف من حضور ثقافة أقدم من الرواية المصطنعة.
تراث يُنتزع منه الاعتراف… ومحاولات محو لا تتوقف
منذ عقود، حاولت الرواية الإسرائيلية تقديم عناصر من الثقافة الفلسطينية على أنها جزء من "التراث الإسرائيلي الحديث". ومع كل ظهور فلسطيني عالمي، تعود الحقائق إلى السطح.
فالثوب الفلسطيني وألوانه ونقوشه التي ورثتها النساء عبر الأجيال ظهر في مناسبات إسرائيلية باعتباره "زيًا محليًا".
حتى نقوش السرو والكف وشجرة الحياة انتُزعت من سياقها ووُضعت تحت لافتة "تراث المنطقة".
أما بالنسبة للمطبخ الشعبي، جرى تقديم أطباق فلسطينية والتي تعتبر كهوية وذاكرة، كالحمص، الفلافل، المسخّن، المجدّرة، الزعتر… عالميًا بوصفها “مطبخًا إسرائيليًا”، رغم ارتباطها العميق بالمطبخ العربي الفلسطيني.
ولا ننسى البيوت الحجرية القديمة في يافا والقدس، الأقواس والأبواب والزخارف، صُوّرت ودُوّنت في منشورات إسرائيلية من دون الإشارة لأصحابها الأصليين.
الدبكةالشعبية كذلك رقصة المجتمعات الفلسطينية في أفراحها ومناسباتها ظهرت في عروض إسرائيلية تحمل عنوان “رقص من تراث المنطقة”.
ولم يتوقّف الأمر عند فلسطين وحدها، بل امتدّ إلى الثقافة العربية عمومًا.
حتى أغاني أم كلثوم، أيقونة الموسيقى المصرية، جرى الترويج لها في بعض اللوائح الإسرائيلية على أنها جزء من "تراث المنطقة".
وتاريخيًا، كانت إذاعة "أورشليم – القدس" تبث أغانيها يوميًا عند الساعة الحادية عشرة، في محاولة قديمة لطمس إرثٍ يمتد من القاهرة إلى كل العواصم العربية.
ظل الفلسطينيون محافظون على ذاكرتهم وأوفياء على هويتهم تحت ضغط المحو ورغم كل محاولات الاستحواذ التي طالتهم ..
ظلوا يحفظون تقاليدهم عبر ممارسات يومية تبدو بسيطة، لكنها تحمل عمقًا لا يُنتزع:
امرأة تطرّز ثوبًا بلونٍ ورثته عن بيتها الأول.
عائلة تحافظ على شجرة زيتون ما زالت جذورها تستحضر حضور الجدّ الراحل.
مفاتيح البيوت المعلّقة في المنافي تُقرأ كتاريخٍ لا يسقط بالتقادم.
أغاني القطاف والحكايات تنتقل بين الأجيال كأنها صكّ هوية.
التراث الفلسطيني بقي حيًا لأن الذاكرة الحية أقوى من أي محاولة مصادرة.
فستان نادين أيوب… امتداد الذاكرة على منصة دولية
ظهور نادين أيوب بهذا الفستان شكّل لحظة بارزة في استعادة التراث الفلسطيني حقه في الظهور العالمي.
التطريز الأخضر والذهبي القادم من القرى، الرموز المرسومة للقدس، التاج المستلهم من الشتوة، كلها أعادت تثبيت الهوية في مشهد بصري لا يمكن تجاهله.
لماذا يثير التراث الفلسطيني كل هذا التوتر؟
لأن كل رمز فلسطيني يظهر أمام العالم يعيد طرح الأسئلة التي يخشاها الخطاب الإسرائيلي:
سؤال الأصل…
سؤال الجذور…
وسؤال من يملك الذاكرة في أرض الذاكرة.
وكلما ارتفع حضور التراث الفلسطيني، تراجع تأثير الروايات التي قامت أساسًا على إعادة كتابة التاريخ.
الفلسطينيون… شعب يكتب هويته باستمرارية هادئة
تجدد الذاكرة الفلسطينية لم يتوقف يومًا.
من ورش التطريز والمبادرات النسوية، إلى إعادة إحياء الأغاني الشعبية، وتوثيق القرى عبر المحتوى الرقمي، مرورًا بالفنانين الذين يحملون الحكاية إلى العالم.
وفي هذه الاستمرارية تتجسد الحقيقة الأهم:
التراث الفلسطيني لا ينتظر اعتراف أحد، لأنه يعيش في أيدي أصحابه وذاكرتهم.
إطلالة نادين أيوب أعادت تقديم هذا التراث في لحظة عالمية، وأعادت الاعتبار لتطريز حافظ على مكانته رغم كل محاولات اقتلاعه من سياقه.
وأثبتت مرة أخرى أن الفلسطينيين قادرون على حمل تراثهم أينما ذهبوا، وأن الذاكرة التي تُحاك بالإبرة والخيط، وتُصان باليد والوجدان، تبقى أعمق من أي رواية تحاول إعادة رسم التاريخ.