من قاعات التلقين إلى مصانع المعرفة: أي مستقبل للتعليم العالي في سوريا؟

الدكتور عامر النمر _ متخصص بشؤون الشرق الأوسط السياسية
الأربعاء, 8 أكتوبر - 2025

لم يعد العالم اليوم يتسع للتعليم الذي يقتصر على التلقين وحشو العقول بالمعلومات. الامتحان التقليدي الذي يقيس قدرة الطالب على استرجاع المعلومة لم يعد معياراً كافياً لمعرفة القدرات. نعيش اليوم في زمن تسارعت فيه التكنولوجيا، وتغيرت فيه متطلبات سوق العمل، وصعد فيه اقتصاد المعرفة الذي يجعل من المهارات والإبداع وقيم الإنتاج محركاً للتنمية.

سنوات طويلة ظلّت الجامعات السورية تركّز على الكم أكثر من النوع وعلى صعوبة المناهج أكثر من قوتها. وكنتيجة لذلك، نسبة كبيرة من الخريجين لا يجدون مكاناً لأنفسهم في بيئة اقتصادية واجتماعية وسياسية متغيرة تحتاج إلى خبرات تطبيقية ومهارات عملية. هذه الفجوة بين ما يتم تدريسه وما يطلبه سوق العمل تمثل إحدى أبرز المشكلات البنيوية للتعليم العالي، وهي التي تدفع اليوم نحو التفكير بعمق في صياغة رؤية جديدة له.

النماذج الدولية تقدم شواهد مهمة على أن الجامعة يمكن أن تكون محركاً ً للتغيير. فالصين أدركت مبكراً أن تطوير التعليم العالي هو مدخل للتنمية الوطنية، فأطلقت مشروع project 211 الذي هدف إلى تحويل أكثر من مئة جامعة إلى مؤسسات بحثية عالية الكفاءة أغلبها متخصصة حسب البيئة المتواجدة فيها، قادرة على تقديم حلول مباشرة للاقتصاد والمجتمع، وهو ما انعكس في تسارع نموها الصناعي والتكنولوجي. وفي تركيا، تجاوز عدد الطلاب الأجانب في الجامعات 340 ألف طالب عام 2023، بينهم نحو 15 ألف يستفيدون من برنامج المنح الحكومية، ما جعل التعليم العالي أداة بارزة للقوة الناعمة وتعزيز الحضور الدولي. أما بريطانيا، التي تعد من أكثر الوجهات التعليمية جذباً، فيدرس فيها أكثر من 650 ألف طالب دولي سنوياً، يسهمون ليس فقط في دعم الجامعات مالياً، بل أيضاً في ترسيخ مكانة المملكة المتحدة كقوة تعليمية وثقافية عالمية. لتثبت هذه النماذج أن الجامعة ليست فقط فضاء أكاديمياً، إنما قاعدة استراتيجية لانطلاق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وتعزيز مكانة الدولة.

وفي سوريا، لا يمكن الحديث عن إصلاح التعليم العالي من دون النظر إلى مخرجاته في المدينة والريف معاً. في الريف، تشكّل الكليات الزراعية والبيئية، إذا تم تأسيسها، رافعة أساسية لمكافحة التصحر وتنمية المناطق الزراعية التي تضررت بشدة في السنوات الماضية. وإن ربط التعليم العالي الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والزراعي مباشرة بمشاريع التنمية المحلية يمكن أن يحول الريف من عبء اقتصادي إلى مصدر إنتاجي متجدد. كما تستطيع كليات الهندسة البيئية والهندسة الزراعية أن تقدم حلولاً عملية لمشكلة الجفاف وتراجع الإنتاج الزراعي، وهو ما يعزز الأمن الغذائي ويخفف من موجات الهجرة من الريف إلى المدن.

أما في المدن، فإن كليات الهندسة على سبيل المثال المدنية والعمارة يجب أن تتحول إلى منصات لإعادة الإعمار وتنظيم العمران. بإمكان هذه الكليات أن تقترح مشاريع إسكان مبتكرة، تعيد بناء الأحياء المدمرة بطريقة مستدامة، وتوازن بين حاجات المواطن من جهة، ومصالح المقاول أو المستثمر من جهة أخرى، ومصالح الدولة التي تبحث عن استقرار عمراني واجتماعي من جهة ثالثة. إن الكلية هنا لا تخرج مهندسين فقط، بل تنتج تصاميم ورؤى تجعل من إعادة الإعمار عملية متوازنة ومربحة للجميع، ومبنية على أسس استدامة وجودة عمرانية عالية. وهذا ما يمكن تطبيقه على كافة الأقسام والفروع.

وإذا أردنا أن ننتقل من التلقين إلى الإنتاج المعرفي، فلا بد من أن نعيد تصميم المناهج لتكون مبنية على مشاريع بحثية تطبيقية، وشراكات مع الصناعة والقطاع الخاص؛ بحيث يكتسب الطالب أثناء دراسته خبرة، ويشارك في حلّ مشكلات واقعية، لا أن يكون متلقياً جامداً لمادة نظرية فقط. هذا التحول يجب أن يمتد إلى مراحل التعليم الأولى أيضاً، بحيث تنم تربية الطالب منذ الصغر على التفكير النقدي، والبحث، والتطبيق، لا على الحفظ والترديد.

الفائدة من هذا التحول ليست أكاديمية فقط، بل اقتصادية واجتماعية وسياسية. جامعات منتجة تعرف كيف تربط بين المعرفة والاقتصاد، تسهم في ابتكار تقنيات محلية، وتدعم الشركات الناشئة، وتنتج قوة عاملة ذات كفاءة عالية — وهذا ينعكس إيجابياً على النمو الاقتصادي وتحسين المعيشة للمواطنين. كذلك تصبح الجامعات أدوات في السياسة الخارجية: من خلال التعاون الأكاديمي، ومنح المنح للطلاب الأجانب، والتبادلات الثقافية، يمكن للدولة أن تمضي بدور ناعم على الساحة الدولية.

ومستقبل التعليم العالي في سوريا لن يبنى فقط على نوايا، بل على إرادة إصلاحية قوية، وعلى مؤسسات قادرة على التغيير الجذري. إذا نجحنا في رفع التعليم من مستوى التلقين إلى مستوى الإنتاج المعرفي، فإن الجامعات السورية لن تكون مراكز لمنح الشهادات، إنما مصانع للمعرفة، ومحركات للتنمية، وأدوات للنفوذ الثقافي على السواء.

الوسوم :