أكتب هذه السطور غداة ليلة الضرية الصاروخية الإيرانية على كيان الاحتلال، وفي انتظار رد إسرائيلي لن يتأخر كثيرا، ربما يتجه إلى قصف مصافي بترول وغاز إيرانية، وربما يكون أكثر تهورا، ويستهدف المفاعلات والمنشآت النووية الإيرانية ذاتها، أو الإقدام على عمليات اغتيال لشخصيات سياسية وعسكرية ونووية كبرى في الداخل الإيراني، وهو ما تكررت حوادثه كثيرا من قبل، وعبر ثقوب وخروق أمنية واسعة في نسيج الحكم الإيراني، وأجهزته المتداخلة على نحو بالغ التعقيد والتلاطم.
وربما لم يعد أحد يتساءل عن احتمالات نشوب حرب مفتوحة، فقد جرى الانزلاق إليها بالفعل، حتى لو كانت طهران تحاول عدم الانجرار إليها بالكامل، ولاعتبارات تخص تأمين مشروعها النووي، الذي بلغ مراحل متقدمة، وتخطى العتبة النووية، وصار على وشك إنتاج القنابل الذرية، وقد بدت هذه المخاوف مقيدة وكابحة لتصرفات إيران لوقت طال، وامتنعت لشهور عن تنفيذ وعدها بالرد على اغتيال القائد الشهيد إسماعيل هنية في غرفة نومه شمالي طهران في يوليو/تموز الفائت، ثم بدت تصريحات الرئيس الإيراني الجديد مسعود بزشكيان، مربكة في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة وما حولها، وقد بدا حريصا على كسب مودة الأمريكيين، إلى حد قوله اللافت، إن الإيرانيين والأمريكيين إخوة، وتأكيده أن إيران لا تنوى الذهاب إلى حرب، لكن عدوانية وعجرفة رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو، قطعت الطريق على نوايا التهدئة الإيرانية، وبالغت في استفزاز طهران، مع موجة اغتيالات قادة «حزب الله» في لبنان، إلى حد اغتيال القائد الشهيد حسن نصر الله ومعه قيادي الحرس الثوري الإيراني عباس نيلفروشان، بالتزامن مع خطاب نتنياهو المتغطرس أمام المقاعد الخالية، احتجاجا في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتهديده بمحو إيران وجماعاتها وإزاحة نظامها، وكانت عملية الاغتيال الكبرى قد تمت باتفاق مسبق مع واشنطن، وبطائراتها الشبحية وقنابلها الخارقة للتحصينات، وبالتعاون الاستخباراتي والتكنولوجي الكامل، وبإعادة تكثيف الحضور العسكري الأمريكي في المنطقة، من البحر الأبيض إلى البحر الأحمر إلى الجوار الإيراني المباشر في الخليج، ومضاعفة عديد الجنود الأمريكيين، وحشد حاملات الطائرات والغواصات النووية، وتأهب نحو ستين ارتكازا وقاعدة أمريكية في المشرق والخليج العربيين.
ربما لم يعد أحد يتساءل عن احتمالات نشوب حرب مفتوحة، فقد جرى الانزلاق إليها بالفعل، حتى لو كانت طهران تحاول عدم الانجرار إليها بالكامل، ولاعتبارات تخص تأمين مشروعها النووي
ربما كان هذا التحفز الأمريكي دافعا قويا لسلوك إيراني احترازي قبيل الضربة وخلالها، فقد أبلغت الدوائر الأمريكية تحذيرها للكيان الإسرائيلي قبل الضربة بساعات، وقيل إن طهران أبلغت واشنطن عبر وسطاء بالضربة قبل تنفيذها، أو قد تكون المراقبات والاستطلاعات الأمريكية بوسائلها المتعددة، قد لاحظت استعدادا في قواعد إيرانية لإطلاق الصواريخ باتجاه الكيان، وقد يكون في القصة مزيج من الاستطلاع الأمريكي والإبلاغ الإيراني، لكن المعلومات الأمريكية لم تكن دقيقة تماما، فتحذيرها شبه العلني للكيان، كان عامّا ومفتوحا، وعلى مدى زمنى يصل إلى 12 ساعة مساء الثلاثاء الأول من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، لكن الضربة الإيرانية احتفظت ببعض المفاجأة، في تبكير التوقيت، وبالابتعاد عن استخدام الطائرات المسيرة البطيئة هذه المرة، وبالتركيز على إطلاق مئات الصواريخ الباليستية بعيدة المدى، كثير منها «فرط صوتي»، وبسرعات خارقة تتجاوز سرعة الصوت بنحو عشرين مرة، وهكذا ذهبت صواريخ إيران لأهدافها العسكرية في دقائق معدودة، وشاركت واشنطن طبعا في اعتراض الصواريخ عبر حاملات طائراتها الضخمة في عرض البحر، وادعى جيش الاحتلال أنه اعترض أغلب صواريخ إيران بالقبة الحديدية ومقلاع داود، وإن كان اعترافه هذه المرة بالحماية الأمريكية أكثر وضوحا، سواء عبر حاملات الطائرات، أو عبر قواعد أمريكا في دول عربية معروفة، وبدا نتنياهو بعد الضربة مهزوزا مرتعشا، وتوعد طهران بدفع ثمن فادح لخطأ حياتها.
ومن المؤكد، أن ضربة إيران هذه المرة كانت مختلفة، وجاءت أكثر تطورا وعصفا من ضربتها الأولى في أبريل/نيسان الماضي، كانت الضربة الأولى ـ كما هو معروف ـ ردا على قصف «إسرائيل» لقنصليتها في دمشق، وقتل عدد من قادة الحرس الثوري، وبدت يومها خروجا عن نص الصبر الاستراتيجي الإيراني المعتاد، وإن بدت الضربة الأولى مثيرة للتعجب في كثير من تفاصيلها، من نوع كثافة استخدام الطائرات المسيرة البطيئة في الذهاب لأهدافها، وإلى حد تحول بعض مشاهدها إلى مسلسل تلفزيوني هزلى، استمر عرضه لساعات على البث المباشر، وهو ما أتاح فرصة مثالية استعراضية لجهود التصدي الأمريكية والبريطانية و»الإسرائيلية»، حتى قبل وصول المقذوفات إلى سماء الكيان المحتل، وإن بدت بعض الصواريخ الباليستية المستخدمة وقتها أسرع وصولا، لكن استخدام الصواريخ الفرط صوتية، كان عنوان المفاجأة الإيرانية النسبية في المرة الثانية الأخيرة، صحيح أن جماعة الحوثي، سبقت طهران إلى استخدام الصواريخ فرط الصوتية من طراز «فتاح»، لكن استخدام إيران لهذه الصواريخ ذاتها، كان أكبر وأكثف بما لا يقاس إليه، وصحيح أن طهران ألزمت نفسها هذه المرة أيضا بعدم التعرض لتجمعات سكنية مدنية، وركزت على المواقع العسكرية «الإسرائيلية» وقواعد «نافاتيم» و»رامون» و»نتساريم» ومقار «الموساد» وغيرها، ورغم عدم وضوح نتائج الضربة الإيرانية الجديدة، وزعم «إسرائيل» كالعادة، أن الخسائر كانت محدودة، ومقصورة على أضرار في القواعد وحولها لمئة مبنى، وبغير إصابات بشرية خطرة، وإن كان الأقرب للصحة، أن «إسرائيل» تكتمت على الخسائر كالعادة، ودعونا نتذكر، أنه مع ضربة صدام حسين الصاروخية للكيان أوائل تسعينيات القرن الفائت، لم تعلن «إسرائيل» وقتها عن خسائر، وتأجل الإعلان عن مقتل وإصابة عشرات الإسرائيليين إلى ثلاثين سنة بعد الضربة العراقية المحدودة، وبدت نية الإخفاء والتكتم على الخسائر أكثر ظهورا هذه المرة، فلا أحد عاقل يصدق، أن الدفاعات الجوية الأمريكية و»الإسرائيلية»، تصدت وأسقطت كل صواريخ إيران الفرط صوتية، ثم إن أوامر الرقابة العسكرية «الإسرائيلية» بدت معلنة جازمة صارمة، وأمرت بالامتناع عن تصوير أي شيء، اللهم إلا مشاهد مختارة بعناية، لم يكن بوسعها إخفاء علامات الرعب الواسع الذي اجتاح الكيان، وهروب الملايين من سكانه إلى الملاجئ، واختباء نتنياهو وأركان حكومته وقادة جيشه تحت الأرض، وتوقف الإرسال والبث المصور المباشر على شاشات محطات تلفزيون الكيان، وتحول التلفزيونات المرئية إلى إذاعات مسموعة، تحدث فيها المذيعون من الملاجئ لا من الاستديوهات المهجورة، كانت تجربة الرعب غير مسبوقة في تاريخ الكيان منذ 7 أكتوبر 2023، وكان الكيان قد رد على ضربة إيران الأولى أواسط أبريل الماضي، التي كانت محدودة عابرة محبطة، فيما كان الرد «الإسرائيلي» وقتها بالعدوان على «أصفهان» رمزيا، إن لم نقل أنه كان عظيم التفاهة، وأيا ما كانت طبيعة وحجم الرد «الإسرائيلي» على ضربة إيران الثانية الأكثر جدية وأثرا وإرعابا، فإنها لن تعني نهاية المسلسل الحربي غالبا، وربما تدفع طهران إلى الرد على الرد، وتصعيد وقائع الحساب المفتوح، وإن كانت واشنطن الغارقة هذه الأيام في فوضى انتخابات الرئاسة، لا تبدو مستعدة للمشاركة الجهيرة مع «إسرائيل» في ضرب إيران، خصوصا مع مراقبة روسيا والصين اللصيقة لما جرى ويجري، فلا تخفي على لبيب رائحة حضور روسيا الموارب في المشهد، ودعمها المقدم إلى طهران، وتزويدها بخبرات وتكنولوجيا الصواريخ فرط الصوتية، فوق أن برنامج إيران النووي تجاوز على ما يبدو احتمالات المقدرة على تقويضه عسكريا، حتى لو جرى توجيه ضربات مباشرة للمنشآت النووية، ولا يبدو أن بوسع واشنطن ولا تل أبيب من باب أولى، أن تسقط نظام إيران بغير غزو بري مباشر. والأهم من جولات إيران و»إسرائيل»، أن قوة جماعات المقاومة العربية من نوع مختلف، وهي المدعومة بالمال والسلاح من طهران، لا تبدو مرشحة للتراجع، رغم ضربات قطع الرؤوس، التي نالت كثيرا من قادة «حماس» و»حزب الله»، وصولا إلى اختناق الشهيد حسن نصر الله تحت الركام، لكن هذه الضربات المستندة إلى تفوق الاستخبارات والتكنولوجيا والصواريخ الخارقة وسلاح الجو الإسرائيلي، لن تعيد لكيان العدو رهبته وقوة ردعه الكاسحة كما يظن، فلم تظهر على «حزب الله» بعدها علامات ضعف مؤثرة، وظل يواصل ويصعد ضرباته الصاروخية في الشمال والعمق «الإسرائيلي»، ثم بدأ العد التنازلي لزوال النشوة «الإسرائيلية» مع عمليات دخول قوات العدو إلى جنوب لبنان، وبدء عد الخسائر البشرية «الإسرائيلية» العسكرية من جديد، ومقتل 14 ضابطا وجنديا من فرقة «كوماندوز» للعدو في كمين محكم بقرية «العديسة»، والعودة إلى مجازر تدمير دبابات «الميركافا» في «مارون الراس»، وقبلها في العملية الفدائية الفلسطينية الجريئة في «يافا»، التي أسقطت سبعة قتلى من «الإسرائيليين» في ليلة الهجوم الإيراني.
المصدر : القدس العربي