عبد الحليم قنديل
قبل أسبوع من اليوم، وعلى مرمى حجر من استشهاد الجندي المصري رمضان عبدالله بالرصاص «الإسرائيلي» عند معبر رفح، نشرت في هذا المكان مقالا بعنوان «مصير كامب ديفيد»، قلت فيه بالنص إنه «قد لا تصل تطورات اللحظة الخطرة إلى حد استئناف مصر لسيرتها التاريخية، ولا إلى إعلان مصر حربا شاملة ضد كيان الاحتلال الإسرائيلي، ولكن كل ما هو دون ذلك يبدو واردا، وفي صورة إجراءات أمنية وعسكرية بطابع تصاعدي»، وجاء ارتقاء الجندي الشهيد ليؤكد صواب ما ذهبنا إليه، فقد كان الشهيد بإطلاقه النار على قوات الاحتلال «الإسرائيلي» في الجانب الآخر، ينفذ بدقة تعليمات قيادته، ونثق رغم قيود السياسة الرسمية، أن دم الشهيد لن يذهب هدرا، وأن الحادث لن يكون الأخير من نوعه، وفي أجواء توتر واختناق علاقات القاهرة و»تل أبيب»، وعلى نحو ما عرضنا تفاصيله في مقال الأسبوع الفائت.
استحالت غزة الصغيرة إلى دنيا بلا نهاية لامتدادها، وتضاعفت مساحتها مرات فوق الأرض وتحت الأرض، وتأكدت استحالة تحقيق العدو لأي نصر
وإلى أن تتجدد دورة حوادث النار عند الحدود، يبقى صوت ملحمة غزة، لا يعلو فوقه صوت، فقد تحولت غزة الصغيرة بشريط أرضها الضيقة، المحاصرة المختنقة من كل اتجاه، المشتعلة بحمم النار فوق رأس أهلها، المعانية من حرب إبادة جماعية غير مسبوقة في التاريخ الإنساني، تحولت غزة هذه إلى قلب نابض بتحولات الدنيا كلها، وأيقظ عذابها ضمائر العالم النائم، وصار صمودها الأسطوري أيقونة أحرار العالمين، فقد يقال لك إن غزة دمرت عن بكرة أبيها، وإن 130 ألفا من الغزيين في عداد الضحايا، وأنه لم يبق في غزة من جدار قائم، وأن أغلب البيوت والشوارع والمساجد والكنائس والمستشفيات والمخابز والمدارس والجامعات، تحطمت في زلازل تدمير شامل، فوق شلالات الدماء التي سالت وتسيل، ومحارق الأجساد التي تحولت إلى أشلاء، وكل هذا صحيح ومحزن ومأساوي، وأفرغ العيون من الدموع، لكن الصحيح بالقدر نفسه، أن سحق كل موارد الحياة في غزة، وكل هذه المجازر والقتل والتشريد والتجويع والتعطيش، لم تطفئ أبدا بريق إلهام غزة، ولا مقدرتها الإعجازية على مواصلة الحياة، وكأنها أول الخلق العفي، وكأن أرض غزة، هي الحياة نفسها، وكأن تجريد غزة من كل شيء، لا يبدل هويتها ولا طباعها النورانية، ولا ينتقص من زاد حضورها المتدفق، فهي تنهض دائما من تحت الركام، وتعلمنا أن الحياة قرار الناس لا صناعة الظروف، وأن «العروة الوثقى» التي تربط البشر بأرضهم المقدسة تعلو فوق كل المحن، فرغم نزوح أغلب «الغزيين» من أرضهم إلى أرضهم لخمس مرات على الأقل عبر ثمانية شهور من حرب الإبادة، إلا أن التيار الرئيسي الغالب بين الفلسطينيين في غزة، لا يفكر أبدا في تركها إلى غيرها من بلاد الله، وهم النازحون المهجرون أصلا من قلب فلسطين المحتلة في نكبة 1948، وتوارثوا العذاب عن الآباء والأمهات والأجداد، ووقر في قلوبهم، أنه لا هروب من أرضهم إلا لأرضهم، وأن الخروج من فلسطين يعني أنه لا عودة إليها، وربما يفسر ذلك بعضا من تكوين غزة العصي على الكسر، وكانت دائما مركزا لتأسيس وصعود أبرز حركات المقاومة والفداء الفلسطيني.
ففي غزة أعلى وأصفي تركيز لخلاصة المحنة الفلسطينية الفريدة، وفيها أعلى كثافة بشر وأرقى نزوع للتحرير، ومنها خرجت الأنوية الأولى الأصلب، من سيرة «فتح» إلى أيام «حماس»، وفي غزة يعرفون، أن الموت ليس معادلا للفناء بالضرورة، ويعرفون قيمة أن تختار موتك، وأن تجعل اختيار موتك سبيلا إلى حياة لا تفنى، وهو ما يفسر سلاسة اختيار الاستشهاد في غزة» قبل غيرها، فالموت مصير كل حي، وفي غزة ينتظرهم الموت عند كل شبر أرض وفي كل شمة هواء، لكن الفارق عندهم هائل بين موتين، الموت كضحية تحت أحجار جدار، أو الذهاب إلى الموت اختيارا لتكسب الخلود لنفسك والكرامة لأهلك والعزة لوطنك.
وفي تقارير أمريكية نشرت أخيرا من دوائر «البنتاغون» وغيرها، كانت دهشتهم عظيمة مما يجرى في غزة، ومما آلت إليه «كتائب القسام» وغيرها من حركات المقاومة، كانت التقارير الأمريكية السابقة أكثر احترازا في تقدير خسائر «حماس» وأخواتها، وكانت تعترض على مبالغات حكومة الاحتلال «الإسرائيلي» وأجهزة استخباراتها، وكانت تكذب مزاعم «إسرائيل» بأنها قضت على عشرين من «كتائب القسام»، وأنه لم تتبق سوى أربعة كتائب، يذهبون إلى رفح بدعوى تصفيتها، وكانت التقارير الأمريكية تتحدث عن أرقام أقل لخسائر «حماس» و»القسام»، وعن بقاء أغلب شبكات الأنفاق الحربية الفلسطينية سليمة، وهو ما عادت التقارير الأمريكية الأحدث لتأكيده، وإن خفضت نسبة الأنفاق التي ظلت على حالها الأول إلى 65% من المجموع، لكنها ـ أي تقارير البنتاغون ـ اكتشفت ما تصورته مفاجأة كبرى، هي أن عدد المقاتلين في «حماس» وغيرها زاد ولم ينقص، وأن حركات المقاومة استقبلت آلافا جديدة من المقاتلين، استعاضت بجهدهم عن آلاف ارتقوا إلى مقام الشهادة العظمى، وهو ما يعني ببساطة، أن مددا جديدا من شباب «غزة» التحقوا طوعا واختيارا بسلك القتال، فقد رأوا بأعينهم هول زلازل التدمير وطوفان الدم، وفي لحظة الاختيار الحاسم، رفضوا انتظار الموت قعودا كضحايا، وذهبوا إلى اختيار القتال كشهداء تحت الطلب، يضيفون إلى آيات المقاومة الفلسطينية الراهنة، وهي سليلة مقاومة من نوع مختلف، توالت مشاهدها في العقود الثلاثة الأخيرة، وامتازت بالحس الاستشهادي الإيماني المطلق، ودخلت الميدان بمعنى الاستشهاد كأعلى قيمة إنسانية، قارعت بها ما يملكه العدو من أرقى تكنولوجيات الحرب، ثم أضافت للقيمة الاستشهادية تكنولوجيا سلاح من صنع أيديها، وفنون قتال مذهل، قهرت وتقهر بها جيش الاحتلال في أطول حرب يخوضها، واستنزفت دم نخبة جنوده وضباطه، ودمرت أقوى دباباته وآلياته بالآلاف، وفاجأته من حيث لا يحتسب، ومن أنفاق تحت الأرض، ومن أنقاض المباني فوق الأرض، وأعجزته عن تحقيق أي نصر بأي معنى، رغم التفاوت المادي الرهيب بين ما يملكه العدو «الإسرائيلي» الأمريكي، وما تملكه المقاومة من متاع السلاح القليل المتواضع، الذي حوله النبل والفداء والذكاء الإنساني إلى سلاح فتاك لا يقهر، فوق الحفاظ على أداء قتالي غاية في الانضباط والدقة والتخطيط، جعل المقاومة تقاتل إلى اليوم كتنظيم جماعي محكم، ظل إلى اليوم يحوز مزايا القيادة والسيطرة، تتحرك فيه الأوامر والكتائب بسلاسة مدهشة من الجنوب إلى الشمال وبالعكس، ويصوغ مثالا لا يبارى من الحروب غير المتناظرة، لا تفتر عزيمته أبدا، وعلى نحو ما شهدناه في الأيام والأسابيع الأخيرة، وما تبدى فيها من مقدرة قوات المقاومة على إدارة المعارك في شمال غزة وجنوبها في الوقت نفسه، ومن رفح إلى النصيرات وبيت حانون والزيتون وبيت لاهيا وجباليا، وامتلاك زمام المبادرة، واستعادة روح وجرأة ما جرى صباح السابع من أكتوبر الطوفاني، والإبداع المتقن في نصب الكمائن المركبة، واستدراج قوات العدو إلى فتحات الأنفاق مجددا، وقتل فريق من قوات النخبة «الإسرائيلية» وأسر فريق آخر، كما جرى في «جباليا» أخيرا، وكان دفع العدو لألوية جديدة في «غزة»، وعودته إلى أماكن الغزو البري الأولى في شمال غزة وفي وسطها، كانت العودة «الإسرائيلية» فرصة جديدة لقوات المقاومة، تخوض فيها عمليات القتال من المسافة صفر، وتحول دون استفراد العدو بمكان بذاته، وتشتت انتباهه وتركيزه، وتغرقه في رمال غزة، وتضاعف حيرة جنرالاته في حروب المتاهة، فقد استحالت غزة الصغيرة إلى دنيا بلا نهاية لامتدادها، وتضاعفت مساحتها مرات فوق الأرض وتحت الأرض، وتأكدت استحالة تحقيق العدو لأي نصر، فلا هو يجد سبيلا متاحا للقضاء على «حماس» التي تتكاثر، ولا هو يستطيع الوصول لأسراه على قيد الحياة، بل إن قوات النخبة الإسرائيلية الذاهبة لإنقاذ الأسرى، تلتحق هي الأخرى بمصائر الأسر نفسه، وفي حروب «الدائرة المفرغة» التي دخلتها «إسرائيل» بأحدث أسلحتها الأمريكية، لا تبدو من نهاية تشبه ما خططوا له، فيما نجحت المقاومة في تفجير تناقضات متزايدة وراء خطوط العدو، فالهزيمة يتيمة بطبعها، و77% من «الإسرائيليين» صاروا يجزمون بأنهم خسروا الحرب، وقادة العدو يتقاذفون الاتهامات بالمسؤولية عن الخيبة، فيما تعزز مقاومة «غزة» من مكاسبها، تدفن الشهداء وتمسح الدموع وتقاتل، وتكسب للقضية الفلسطينية تعاطفا وتأييدا عالميا غير مسبوق، وتكسب للرواية الفلسطينية أرضا متسعة في الغرب عقر دار الحركة الصهيونية تاريخيا، وبثمن مدفوع من دم «الغزيين» الصامدين ومقاومتهم العبقرية الأوصاف.
القدس العربي