حتى لو جرى سحب قوات الاحتلال من معبر “رفح” على الجهة الفلسطينية، وإجراء ترتيبات هجينة لإدارة عمل المعبر بديلا عن سلطة المعابر التابعة لحكومة “حماس” فى “غزة” ، فلا يعنى ذلك نهاية قصة غزو “رفح” ، وكما قلنا فى مقال الأسبوع الفائت المعنون ” عودة إلى دراما رفح” ، الذى انتهى نصا إلى أنه “سواء تم الغزو بعد أيام أو بعد أسابيع (….) فقد صارت رفح الصغيرة عنوانا لمعركة الفصل النهائى فى الحرب كلها ، وإنا معكم لمنتظرون نصر الله لعباده الصابرين المقاومين ” ، وقد بدأ الغزو بعد أيام ـ فعلا ـ من نشر المقال ، وإن بدت بعض مشاهده استعراضية مشحونة بإيحاءات مقصودة ، من نوع إنزال العلم الفلسطينى ورفع العلم “الإسرائيلى” ، وتصوير الوصول “الإسرائيلى” لمعبر “رفح” على الجبهة الفلسطينية ، وكأنه “فتح عكا” وإكمال لاحتلال “غزة” ، ووصل الاستفزاز “الإسرائيلى” للجوار المصرى إلى سقوف خطرة ، لن تؤدى قطعا إلى نشوب حرب مصرية “إسرائيلية” ، ولا إلى طى صفحة ما تسمى “معاهدة السلام” المرفوضة بتطبيعها المدان من الأغلبية الساحقة للشعب المصرى ، وهو أعظم الشعوب العربية عداء لكيان الاحتلال وكراهية للسياسة الأمريكية ، لكن لا أحد عاقل يتصور فى المدى المنظور ، أن يعود أى نظام عربى لسيرة الحرب مع العدو “الإسرائيلى” ، اللهم إلا إذا جرت مفاجآت وتغيرات تعدل الموازين المقلوبة .
وفى التفاصيل المسكونة بالشياطين ، قد تفلت رصاصة طائشة عابرة للحدود ، أو تلجأ “إسرائيل” لإجبار مئات آلاف الفلسطينيين على العبور إلى “سيناء” المصرية ، وهو ما لن يكون بوسع السياسة المصرية الرسمية تحمله ، وموقفها المعلن يرفض تهجير الفلسطينيين خارج أراضيهم قسريا أو طوعيا ، وهو ما تعمل السياسة الأمريكية الراعية لما تسمى “معاهدة السلام” على تجنبه ، وتسعى مع المصريين المعنيين على الدفع قدما بما يعرف إعلاميا بصفة “المقترح المصرى ” ، الذى أعلنت حركة “حماس” وأخواتها موافقتها عليه ، وبما وضع حكومة الاحتلال فى مأزق ، لم تجد مخرجا منه ، سوى الشروع فى تنفيذ خطة غزو “رفح” ، وبدعوى تشديد الضغط العسكرى على “حماس” وأخواتها ، مع زعم ضرورة القضاء على ما تسميه “الأربع كتائب” المتبقية لحركة “حماس” فى “رفح” ، والتمهيد لما يسميه رئيس وزراء العدو “بنيامين نتنياهو” باستكمال “النصر المطلق” ، وهو وهم لن يتحقق أبدا ، لا على موائد التفاوض فى “القاهرة” وغيرها ، ولا فى ميادين القتال وجها لوجه مع قوات المقاومة الفلسطينية ، التى تخوض وحدها حربا فريدة مع قوات الغزو “الإسرائيلى” ، التى فشلت فى تحقيق أهدافها الأصلية المعلنة من حرب الإبادة الجماعية ، وقد دخلت من أيام إلى شهرها الثامن ، واستأسدت فيها قوات الاحتلال بأسلحتها وقنابلها الأمريكية على المدنيين الفلسطينيين العزل ، ورغم تدفق شلالات الدماء وزلازل الدمار المرعب ، وتجاوز حصيلة الضحايا لرقم المئة والثلاثين ألفا إلى اليوم ، مع الإفناء شبه الكلى للمبانى والمستشفيات والمدارس والمخابز والمساجد والكنائس ، ودفع الفلسطينيين إلى مصائر الموت الجماعى بالتجويع والتعطيش والأوبئة بعد القتل بقصف القنابل الأمريكية زنة الألفى رطل ، ورغم كل هذه المعاناة المفزعة التى لا يحتملها بشر ، فقد صمد الشعب الفلسطينى بغالبيته إلى اليوم ، وكان صموده الأسطورى سندا هائلا لقوات المقاومة فوق الأرض ، وبين أنقاض المبانى المهدمة ، وتحت الأرض فى شبكة أنفاق رهيبة لم تفك أسرارها وألغازها إلى اليوم ، وتمكنت قوات المقاومة من خوض أطول حرب مع كيان الاحتلال فى تاريخه ، وطورت فنونا فى عبقرية القتال الاستشهادى وجها لوجه ، وخاضت حربا غير متناظرة بتسليح متواضع مصنوع ومطور ذاتيا ، وأعجزت العدو عن تحقيق أى تقدم فعلى وناجز ، وحرمته من استقرار السيطرة فى أى منطقة دخلتها قواته ، ودفعته إلى جنون المطاردة لسراب خادع ، تغوص معه أقدامه فى رمال “غزة” ، فهو ـ أى العدو ـ لا ينتهى أبدا من معركة ، حتى يتقدم إلى غيرها ، وفى حين يزعم العدو أنه دمر قوات وكتائب المقاومة فى كل مكان ، وأنه لم تتبق سوى معركة أخيرة فى “رفح” مع أربع كتائب أخيرة ، يعود جيش الاحتلال دائما ليكذب نفسه بنفسه ، فالمعارك تتجدد فى أقصى شمال قطاع “غزة” من “جباليا” إلى “بيت لاهيا” و”بيت حانون” و”حى الزيتون” و”حى الشجاعية” ، وإلى “مخيم النصيرات” بالوسط وشرق “خان يونس” جنوبا ، وبما دفع جنرالات حاليين وسابقين فى جيش العدو إلى تكذيب البيانات الرسمية ، وتوقع وجود نحو ست كتائب من “حماس” لا تزال تعمل فى شمال “غزة” ، أى أن عدد المقاتلين المقاومين فى الشمال يفوق عددهم مرة ونصف المرة ما يقال أنه تبقى فى الجنوب وفى “رفح” بحسب التقارير الإسرائيلية ، وهو ما يعنى ببساطة ، أن جنرالات العدو ضائعون فى المتاهة ، لا يعرفون بالضبط أين يوجد أسراهم ولا أين توجد قيادة “حماس” العسكرية ؟ ، وحتى لو وجدوهم وقتلوهم افتراضا ، فلا أحد يضمن للعدو نهاية لسيرة المقاومة ، بل إنها تزيد اشتعالا مع استشهاد القادة كما دلت سوابق تفوق الحصر .
وفوق الأداء القتالى المذهل ، فقد طورت المقاومة بذكاء عبقرى تكتيكاتها الإعلامية والسياسية ، وصارت فيديوهات “القسام” سلاحا مرعبا على جبهة الحرب النفسية ، فهى مصنوعة بإتقان وبصور وبلغة مدروسة بعناية ، تخاطب وعى ووجدان التجمع “الإسرائيلى” ، وتخترق الحصار المضروب على عقل الداخل “الإسرائيلى” ، وتلعب بمهارة فائقة على أعصاب “الإسرائيليين” ، وإلى حد صار معه “الإسرائيليون” ، يترقبون شرائط “أبو عبيدة” الناطق باسم “كتائب القسام” ، ويصدقونها فيما يكذبون فيديوهات “نتنياهو” المذعور ، وينصبون شاشات ضخمة فى قلب “تل أبيب” لإذاعة ومشاهدة “فيديوهات القسام” المحظورة رسميا ، ومع الامتياز والتكوين المدهش لرسائل المقاومة الإعلامية ، وتصويرها البديع الحى لكمائن المقاومة البارعة المركبة ، ولنداءات الأسرى الإسرائيليين والأمريكيين فى “غزة” ، التى تضاعف حدة الخناق على قادة العدو من وراء خطوطه ، ومثلت ـ على نحو مباشر وغير مباشر ـ إلهاما لانتفاضات وغضب الناس على جبهة العدو الأمريكى “الإسرائيلى” ، ثم أن رسائل المقاومة السياسية ، بدت على درجة من الذكاء والنضج الموازى لرسائلها الإعلامية الباهرة ، وظهر ذلك بوضوح فى المفاوضات غير المباشرة المتصلة والمتقطعة على مدى الشهور الثلاثة الأخيرة ، وإلى درجة دفعت الوسطاء إلى تسليم أكبر بمطالب المقاومة الأساسية ، سواء فى الوصول إلى انسحاب كامل لقوات العدوان من “غزة” كلها ، أو فى إعادة النازحين إلى جهاتهم الأصلية من الجنوب إلى الشمال بغير قيد ولا شرط ، أو فى فك الحصار وإعادة الإعمار بعد وقف الحرب ، وفى مقاومة ضغوط داهسة مورست على مفاوضى المقاومة لتقديم تنازلات ، لكن النتائج جاءت فى الاتجاه المعاكس ، وجرت تعديلات جوهرية طورت المقترح المصرى بمراحله الثلاث المرتبطة ، وكانت يقظة مفاوضى المقاومة ظاهرة حتى فى وضع الألف واللام على تعبير “الهدوء المستدام” ، وإلى أن تمكنت “حماس” وأخواتها من توجيه ضربتها السياسية ، وفاجأت الأطراف جميعها بإعلان الموافقة رسميا على الخطة الثلاثية ، ونسفت الإدعاء الأمريكى “الإسرائيلى” بأن “حماس” هى التى تعرقل الوصول إلى صفقة ، وبما حشر “نتنياهو” فى الزاوية الحرجة ، ودفعه إلى الخروج الفج على قواعد لعبة التفاوض ، وإعلان البدء بغزو “رفح” ، وعلى ظن بائس ، أن المقاومة سوف ترتعب من الغزو ، وأن الوسطاء ـ المصريون بالذات ـ سوف يعدلون الشروط كى تلائم مزاج ومصالح كيان الاحتلال ، وهو ما لا يبدو متاحا ، فلا قيمة لاتفاق أو صفقة ، دون أن يكون هدفها الجوهرى وقف الحرب والعدوان ، وهو ما لا يريد “نتنياهو” الإقرار به ، وإلا كان معناه الإقرار بهزيمة كيان الاحتلال ، ودفن حكومة العدوان الهمجى ، ونهاية سيرة “نتنياهو” السياسية قطعا ، إما بالعودة إلى البيت أو الذهاب إلى السجن ، ومن دون أن تنفعه تهديدات التوسع فى غزو “رفح” ، ونصب مجازر مضافة لأهلها ، فما لم يدركه العدو فى معارك ومجازر سبقت ، لن يفلح بكسبه فى معركة “رفح” ، وقد استعدت لها قوات المقاومة طوال شهور التهديد بالغزو ، الذى تتفق عليه واشنطن مع “تل أبيب” ، وهما طرفان فى حالة “اندماج استراتيجى” ، وإن كانت خلافات التكتيك والطريق واردة بين الطرفين ، فواشنطن تدرك أن لعبة الحرب انتهت ، وتريد حماية كيان الاحتلال بالانتقال إلى تلاعب بأوراق أخرى ، من عينة التلاعب بورقة المساعدات الإنسانية ، وورقة إدارة معبر “رفح” على الجانب الفلسطينى بشركات ظاهرها تجارى وباطنها مخابراتى ، وتغليب ورقة التطبيع السعودى “الإسرائيلى” ، والبحث عن سبل أخرى لتطويق “حماس” ، وإشراك أطراف مريبة فى خطة الميناء والرصيف البحرى ، فوق أن الرئيس الأمريكى ” بايدن” يريد هدوءا لشهور تسهل إعادة انتخابه فى نوفمبر المقبل .
المصدر: القدس العربي