(عن القدس العربي)
لأول مرة منذ تأسيسها تشعر «الدولة اليهودية» أن وجودها مهدد بعد عملية «طوفان الأقصى».
فهذه الدولة التي أقامتها الصهيونية اليهودية والعالمية بنيت منذ سفر تكوينها على مجموعة من الممارسات كونت استراتيجياتها في رؤية لمستقبل استمرارية وجودها، فهذا الوجود مرتبط بعدة عوامل عملت على تحقيقها:
محو الوجود الفلسطيني كشعب على الأرض ومن الذاكرة العالمية، فكانت العبارة الأولى «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض».
وربط هذه الأرض بمعتقد ديني كونها «أرض الميعاد» التي وعدها الله بها بني إسرائيل «شعبه المختار».
جلب أكبر عدد من اليهود في العالم لاستيطانها فهي ستكون الموئل الوحيد الذي سيعيش فيه اليهود المهددون «بأمان» بعد ما أصابهم من اضطهاد في أوروبا. ثم ربط استمرارية وجودها بالحفاظ على حبل سرة القوى الخارجية (الصهيونية العالمية) التي صنعتها فلا حياة لها إذا قطع.
بث «البروباغندا» الدعائية عن ديمقراطيتها الكائنة ضمن محيط ديكتاتوري عدائي، وأنها الضحية الباحثة عن العيش بأمان والتي ينتظر أن تذبح ويلقى بها في البحر، وتوجيه تهمة «معاداة السامية» لكل من تجرأ بنقدها.
بناء دولة عدوانية
قال وزير خارجية بريطانيا آرثر بلفور في رسالته الموجهة للورد روتشيلد:
«إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين وستبذل قصارى جهدها لتحقيق هذه الغاية، على ألا يجري أي شيء قد يؤدي إلى الانتقاص من الحقوق المدنية والدينية للجماعات الأخرى المقيمة في فلسطين أو من الحقوق التي يتمتع بها اليهود في البلدان الاخرى أو يؤثر على وضعهم السياسي».
الرسالة إذن تتحدث عن «وطن قومي» وليس دولة، وتعطي اليهود صفة الشعب، بينما تصف الآخرين بالجماعات المقيمة في فلسطين أي نزعت عنهم صفة الشعب. وتطلب عدم التعرض لحقوقهم المدنية والدينية. لكن اليهود القادمين من كل حدب وصوب لم يلتزموا بها، وبريطانيا دعمتهم في كل الانتهاكات التي مارسوها ضد الفلسطينيين. فحسب إحصائيات عدد السكان في فلسطين قبل الحرب العالمية الأولى بلغ 690 ألف نسمة نسبة اليهود منهم 8 في المئة فقط. و92 في المئة من الفلسطينيين (من مسلمين ومسيحيين) وفي العام 1948 كان عدد السكان أكثر من 2 مليون نسمة منهم 31 في المئة من اليهود، الوكالة اليهودية عملت على دفع اليهود للهجرة بوعود «العيش في مكان آمن» وخاصة بعد المحرقة اليهودية في ألمانيا «الهولوكوست». لكن انكشفت نوايا الحركة الصهيونية بعد هجرات اليهود الأولى إلى فلسطين بعد الحرب العالمية.
إذ تم سريعا إنشاء تنظيمات عسكرية ميليشياوية إرهابية (حسب تصنيف بريطاني) ما بين الحربين العالميتين (الهاغاناه، إرغون، إتسيل، شتيرن، ليحي، البلماخ) مهمتها قتل الفلسطينيين وطردهم من قراهم (كما يحدث تماما حاليا في الضفة الغربية مع كتيبة نيتسيح يهودا التابعة لجيش الاحتلال التي قررت واشنطن فرض عقوبات عليها، وجماعات شبيبة التلال المدعومة من زعماء اليمين المتطرف مثل إيتمار بن غفير، بيزايليل سموتريش الذي يدعو إلى تدمير غزة كاملا) وكان من بين زعماء هذه العصابات دافيد بن غوريون، ومناحيم بيغن، وأسحق شامير، وأسحق رابين الذين أصبحوا لاحقا رؤساء وزراء لدولة الاحتلال.
الثورة الفلسطينية الكبرى
لقد وجد كل مهاجر يهودي يصل إلى فلسطين نفسه أنه مدعو للانخراط بطريقة أو بأخرى في مخططات الصهيونية، وفي العصابات الصهيونية ليصبح قاتلا ومحتلا وطاردا لأصحاب الأرض، ليحقق قيام دولة إسرائيل، وأن الأمان الذي وعد به لا يتحقق إلا عبر البندقية في مواجهة شعب يرفض الاحتلال، خاصة خلال الثورة الفلسطينية الكبرى (ثورة القسام) وقد سجلت شهادات عدد كبير من هؤلاء الذين اعترفوا بارتكابهم مجازر فظيعة في القرى الفلسطينية لترويع الفلسطينيين ودفعهم إلى الهجرة (كما يحصل حاليا في غزة من قبل جيش الاحتلال). منها مجزرة بناية السلام، مجزرة قطار حيفا، مجزرة دير ياسين، مجزرة قالونيا، مجزرة ناصر الدين، مجزرة الحسينية، مجزرة حيفا، مجزرة عين الزيتون، مجزرة أبو شوشة، مجزرة بيت دراس، مجزرة الرملة، مجزرة اللد، مجزرة الدوايمة، مجزرة القدس، مجزرة بلد الشيخ، مجزرة العباسية، مجزرة الخصاص، مجزرة باب العمود، مجزرة الشيخ بريك).
وقد ارتكبت العصابات الصهيونية مجازر مروعة إبان حرب النكبة 1948 منها (مجزرة دير ياسين، تفجير حافلات حيفا ورام الله، مجزرة الطيرة، مجزرة الخصاص، مجزرة مقهى دمشق، تفجير مصفاة بترول حيفا، تفجير بوابة يافا، مجزرة سعسع، مذبحة اللد، وصقرير، مجزرة الصفصاف، مجزرة صلحا وعيلبون، مجزرة حولا، والكروم، مجزرة المواسي) كما ارتكبت بحق الفلسطينيين بعد حرب النكبة مجازر أخرى منها (مجزرة كفر قاسم، ومجزرة خان يونس 1956، مذبحة الأقصى الأولى 1990، مذبحة الحرم الإبراهيمي 1996، مجزرة جنين 2002، مجزرة صبرا وشاتيلا 1982 ومجزرة قانا 1996 في لبنان). وإزاء كل هذه المجازر أغمضت بريطانيا وكل الدول الداعمة لهذا الكيان، وعلى رأسها الولايات المتحدة أعينها واعتبرتها دفاعا عن النفس كما تدعي حاليا الدول الغربية الداعمة له أن «لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها».
الأمن المفقود
تدعي دولة الاحتلال أنها تقوم بحروبها ومجازرها من أجل أمنها، ولخوض حروبها تفرض على كل يهودي ويهودية خدمة إجبارية في الجيش لمدة ثلاث سنوات، ويبقى رهينة استدعائه لخدمة الاحتياط كلما دعت الحاجة، أي أن اليهودي الذي بحث عن الأمان في فلسطين يجب أن يحمل البندقية ليقتل ويُقتل.
فمنذ إعلان قرار التقسيم الذي أعطى اليهود الذين يبلغ عددهم آنذاك حوالي 700 ألف نسمة 55 في المئة من الأراضي الفلسطينية، وللفلسطينيين البالغ عددهم 1,5 مليون تقريبا 45 في المئة من أرض فلسطين التاريخية. أي بفارق صارخ لصالح اليهود، فإن قرار التقسيم هذا حول القضية الفلسطينية إلى صراع عربي إسرائيلي بدأ بحرب 48 التي انتهت بنكبة، وقامت العصابات الصهيونية خلالها بالتوسع واحتلال كل الأراضي الفلسطينية ما عدا الضفة الغربية وغزة. وفي حرب النكسة 67 احتلتهما كاملا، واحتلت صحراء سيناء المصرية والجولان السوري. وظهرت نوايا الدولة الصهيونية الباحثة «عن أمان اليهود فيها» أنها تزج بهم في حروبها التوسعية حسب مخططاتها غير المعلنة والتي كشفت عنها حركة حماس بعد عملية «طوفان الأقصى» بعد الاستيلاء على خرائط «دولة إسرائيل إلى ما بعد الفرات والنيل» واستمرت الحروب مع الدول العربية في حرب 73، ومع فصائل المقاومة الفلسطينية واللبنانية بعد ان تقاعدت الأنظمة العربية عن مواجهة دولة العدوان وتطبيع العلاقات معها، في حرب لبنان 1982، و1906، و 10 حروب في غزة منذ انسحابها منها في العام 2005.
وأقامت المستوطنات في معظم أراضي الضفة الغربية، وانتشرت عصابات المستوطنين المسلحين في كل القرى الفلسطينية وتقوم بقتل الفلسطينيين وتخريب ممتلكاتهم بحماية جيش الاحتلال. لقد كانت فكرة الصهيونية التي نادى بها هرتزل في كتابه «دولة اليهود» تقوم على «وجود اليهود داخل دولة واحدة ليحققوا الأمان» فإن هذه الفكرة لم تتحقق بعد 75 سنة من الاحتلال للأراضي الفلسطينية، ووجودها لم يستمر إلا بدعم الدول الغربية لها والدفاع عنها، ولم تستطع أن تستقطب يهود العالم، فاليهود في الدول الأخرى يعيشون بأمان وازدهار إلا في إسرائيل.
يقول أبراهام بورغ رئيس الكنيست الإسرائيلي سابقا: «هناك احتمال حقيقي أن يكون جيلنا هو الجيل الصهيوني الأخير».
ويقول المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه:» إن إسرائيل ليست مجرد دولة، بل مشروع استيطاني إحلالي، ومشيرا إلى أننا نشهد حاليا بداية النهاية لهذا المشروع»
كاتب سوري