يحصر البعض الديمقراطية في علاقة المجتمع بالدولة كنظام سياسي يضمن المشاركة السياسية والمساواة على أساس المقولة اليونانية الشهيرة:" حكم الشعب بالشعب". ولا شك أن النظام السياسي القائم على الديمقراطية أثبت أنه أنجح الأنظمة السياسية مقارنة بأنظمة ادعت، وتدعي أنها حكم الشعب، وفي خدمة الشعب، كالأنظمة الشيوعية، والديكتاتورية التي تتشابه سلوكياتها وسياساتها مع اختلافها زمانا ومكانا.
لكن الديمقراطية لا تقتصر على نظام الدولة السياسي، ففي نظام ديمقراطي تطبق الديمقراطية عموديا بين الحاكم والمحكوم كعقد إلى أجل مسمى كما وصفها جان جاك روسو في عقده الاجتماعي. وأفقيا بين الأفراد، والجماعات، والمؤسسات، والأحزاب، والنقابات، والجمعيات، والنوادي.. لأن الديمقراطية هي مسلك سياسي، واقتصادي، وأخلاقي، وتربوي لهذا قال عالم الاجتماع أليكس دو توكفيل بأن الديمقراطية هي قبل كل شيء حالة اجتماعية، وليست نظاما سياسيا. أي هي ارتقاء فكري ومسلكي للقبول برأي الآخر، واعتبار النقد في صالح المصلحة العامة، والتعامل مع الآخر ضمن إطار القانون، والميثاق الأخلاقي. وليس حسب أهواء الحاكم الذي يستأثر بالسلطة حتى لو وصل إليها عبر الانتخابات( وما حصل في واشنطن مؤخرا خير دليل على ذلك) فالنظام الفردي التسلطي يسعى دائما إلى إفساد ما يمكنه إفساده من طبقات المجتمع كي يتسنى له دائما تسنم السلطة المطلقة، لأنه في ظل مجتمع واع ومطالب بالمساواة، وحرية الرأي والتعبير، والمشاركة السياسية على أسس تداول السلطة سلميا لا يمكنه الاستمرارية، وكلما ازداد وعي المجتمع في نظام تسلطي، كلما ازدادت وسائله القمعية، والبروباغندا الكاذبة.
فالحالة السورية هي خير دليل على ذلك، فهي حالة مجتمع يطرق باب التحرر من نصف قرن من السلطوية الطائفية، ومن عقلية الأنا الجمعية " أنا أو أحرق البلد" والأنا هنا تضم كل الطبقة الفاسدة، من ريعيين، ومنتفعين، وشبيحة، وتجار الصدفة، والمتسلقين على جماجم الآخرين، وهزازي الرؤوس، وصغار المخبرين، و"الطبيلة والزميرة" من صنف المروجين ل " منحبك". وما يجمع كل هؤلاء الولاء لسيد النعمة، وتبني خطه االعام المتمثل بخطاب الكراهية، الذي يتدنى إلى التنمر، والعنف اللفظي، والسوقية، ويتطور الأمر ليشمل العنف الجسدي، والتصفيات، والاغتيالات، والقتل الجماعي تحت التعذيب، والتجويع والتركيع. هذه العقلية النافية للآخر، والمهمشة للأكثرية الساحقة التي تعتبرها مهددة لوجودها مستعدة لإحراق البلد، وتهجير نصف سكانه، وقتل مئات الآلاف بكل أصناف الأسلحة، حتى الكيماوية منها، وجلب كل شذاذ الآفاق تحت ستر الليل، ورابعة النهار لإنقاذ نظام على شفير الانهيار لترزح البلد تحت استعمار مبطن متعدد الرؤوس.
إن الشعوب المطالبة بحريتها، هي شعوب تسعى للمشاركة في بناء حاضرها ومستقبلها، وتكون شعوبا فاعلة ومتطورة تملك ناصية أمرها في عالم متسارع الخطى لا ينتظر المتخلفين. ولا يمكن الخروج من ظلام التخلف، والفقر، والأمية، والتقدم، والازدهار، والابداع إلا في ظل حرية الفكر، والانفتاح على الآخر، ومواكبة التطور الفكري، والتقني، وبناء اقتصاد متجدد ومستدام، وبحث علمي متطور، وبنية تحتية تضمن الارتقاء إلى مصاف الدول المتقدمة، فالنظام الفاشل يبني دولة فاشلة حتى لو استمر في الحكم لنصف قرن، فالزمن يسير مسيرته بالدولة وبالمجتمع عكسيا للخلف في ظل القمع والفساد وتدجين العقول بخطاب خلبي خادع عفى عليه الزمن، ويؤدي إلى عملية تفكيك لمفاصل الدولة وبنيتها السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية. إذن لا مندوحة عن رحيل نظام لم يقدم لسوريا والسوريين سوى الويلات، والنكبات، والحروب، والفقر، والدمار، وطوابير الانتظار.. فالآلام لا تعالج بزيادة الآلام، والدموع لا تعوض بماء مالح.