في بلدان الربيع العربي، تونس ومصر واليمن وليبيا وسورية ثم السودان والجزائر، بغض النظر عن خصوصية كل بلد وما آلت ثورته إليه لاحقا، هنالك نقطة لا بد من تسجيلها اعتقد لم تغطها النخب الثقافية المؤيدة للربيع العربي وثوراته، وهي: ماذا يعني خروج مظاهرة في سورية من قبل أبناء البلد مما يعرفون بأنهم" العامة" تطالب بإسقاط النظام أمام نظام كالأسد؟ بالتأكيد ليبيا القذافي أيضا. سورية الأسد لم تكن كمصر مبارك وتونس زين العابدين ويمن علي عبد الله صالح وسودان البشير وجزائر بوتفليقة. من خرج في التظاهرات الأولى في سورية وليبيا خرج وهو يعرف انه ذاهب للموت، بعكس بقية دول الربيع العربي. هذه هي المعجزة في الحقيقة. مع احترامي لكل تظاهرات بقية دول الربيع العربي ومن خرجوا بها.
هذه الشجاعة لأولاد البلد السوريين والليبيين لا توصف. ذاكرة السوريين جميعا، ذاكرة تقول: أن هذا النظام قاتل قبل أي شيء آخر. هذا الأمر لم يأتي من فراغ، بل من خلال ما سجله هذا النظام من مجازر بحق السوريين. ما سجله من حضور المخابرات القاتلة في كل تفصيل من حياة السوري. لا يوحد عائلة في سورية إلا وفيها من اعتقل او قتل او تم استدعائه لفرع مخابرات ما. ربما للتحقيق معه لماذا أضاع بطاقة هويته الشخصية؟ كل السوريين على احتكاك يومي بأجهزة القمع الاسدية، هذه الحالة لم تكن موجودة باليمن ولا بمصر ولا بالسودان. فقط في سورية وليبيا. القذافي كان يفرم معارضيه بأي طريقة.
الحس العملي وذاكرة السوريين ما ينطبق على السوريين ينطبق نسبيا على الليبيين.
ويمكن تعريف الأبتوس Habitus او ما يعرف بالحس العملي على أنه نسق من الاستعدادات المكتسبة التي تحدد سلوك الفرد ونظرته إلى نفسه وإلى العالم الذي يكتنفه، وهو أشبه ما يكون بطبع الفرد أو بالعقلية التي تسود في الجماعة لتشكل منطق رؤيتها للكون والعالم.
ويتوسط الحس العملي العلاقات الموضوعية والسلوكيات الفردية باعتباره مجموعة من الاستعدادات المكتسبة «بين نسق الضوابط الموضوعية ونسق التصرفات القابلة للملاحظة المباشرة يتدخل دائما طرف آخر كوسيط، ألا وهو الأبتوس مركز الالتقاء الهندسي للحيثيات وتحديد الاحتمالات والخطوط المعيشة، للمستقبل الموضوعي والمشروع الذاتي الطابع». فمفهوم الأبتوس يفسر لنا كيف أن عمليات التعلم الاجتماعي تكون وتقلل نماذج الإدراك والسلوك عند العملاء الاجتماعيين، ويساهم في ذلك وبشكل جلي الأنساق التربوية. فالأشخاص إذا ما وجدوا في ظروف اجتماعية مختلفة فإنهم سوف يكتسبون تبعا لذلك استعدادات مختلفة، وذلك حسب وضعهم التاريخي وموقعهم في نسق اجتماعي معين، حيث يؤكد بورديو في هذا السياق أن أبتوسات أفراد ينتمون لنفس الطبقة تبقى أكثر تشابها من أفراد طبقة أخرى، لأن ممارسات الأفراد تؤطرها مجموعة من الشروط الموضوعية خارجة عن إرادتهم ووعيهم*.
تماما كأن تقول الشرط الاجتماعي للمدينة غير الشرط الاجتماعي للريف، كأن تقول الشرط الاجتماعي للأحياء الراقية في المدن غير الشرط الاجتماعي للأحياء المهمشة والفقيرة. لو حاولنا البحث في الذاكرة الفردية للسوري، انطلاقا من هذا المفهوم. ماذا نجد؟ عندما تكون في حافلة نقل عامة أو في الشارع، وتسمع رجلا يتحدث بالقاف العلوية المشددة، ماذا يخطر في بال السوري؟ ما هي ردة فعله؟ يتعامل مع هذه القاف باعتبارها تعبير عن سلطة قمعية. هذا أمر بات لا إراديا في سورية الأسد. لا يتحمل مسؤوليتها صاحب القاف، بل صاحب السلطة.
شكلت سيارة البيجو 504 رعبا للسوريين، وأنا منهم عندما كنت متخفيا، هاربا من المخابرات، كان ما تصدره هذه السيارة من أصوات، يجعلني أقول متقوقعا" اجوا الشباب". كان صديق لي متخفي معي يضحك، ويقول لي يا جبان. لكن أيضا تشكل له هذه الأصوات نفس ردة الفعل العملية. لان إحساسنا مشترك. أيضا لو أخذنا العنف الرمزي الناتج عن العنف المادي والوحشي الذي تعرض الشعب السوري له منذ خمسين عاما أسدية. ما دور هذا العنف المادي والرمزي في تكوين الذاكرة السورية؟ السوريون لديهم خبرة عملية في التعامل مع نظام الأسد. في التعامل مع خوفهم ورعبهم. في التعامل مع تمييزاته الولائية من أمنية، وبعثية، وطائفية، وعشائرية. هذا الحس العملي قضت الثورة على قسم كبير منه. الثورة فاجأت نفسها في ذلك. هنالك شباب تواصلت معهم شاركوا في التظاهرات الأولى، هم أنفسهم فوجئوا بإحساسهم بعدم الخوف من عسكر الأسد ومخابراته، رغم معرفتهم انه في أي لحظة يمكن ان يتلقوا الرصاص. الابتوس او الحس العملي هو تحول السلوك الإنساني إلى عادة متراكمة فيما يعرف بالخبرة. تحولت ردود فعل المواطن السوري عندما كان يلمح سيارة بيجو 504 إلى عادة" بأن يحاول ألا ينظر إليها، وإذا نظر فتكون نظرة يظهر فيها الود الكاذب". كما عبر الصديق فؤاد حميرة بقوله" تعلمنا في نظام الاستبداد أن اللغة وسيلة لإخفاء الحقيقة لا للتعبير عنها".
إنها شجاعة ولاد البلد الذين خرجوا من أجل كرامتهم وحريتهم، بمعزل عن مقتضيات الحقل السياسي السابق للثورة او اللاحق.
خبرة عملية تراكمت خلال أربعين عاما قبل انطلاق الثورة السورية خبرة بماهية النظام الأسدي وممارساته. لا تحتاج لكثير تنظير ومعارك نظرية.
* محمد اعويش في مادته المهمة عن بيير بورديو وإعادة الإنتاج الاجتماعي.