كانت ليلة عادية من ليالي الربيع القاسية , لولا رسالة أخي التي وسمت ذاكرتي بوشم لا يمكن ازالته. أذكرها جيدا كأنني أقرؤها الآن. تلقيتها عندما كنت بصحبة بعض الأصدقاء الإفتراضيين , لا يربطنا إلا الموقف السياسي .. وكبسة زر.
اضطررت للاستئذان بحجة عمل طارئ. فسألني أحد الأصدقاء ساخراً : "شو هالشغل بنصاص الليالي ؟ عملية توليد؟"
فأجبته بنفس السخرية : " لا .. عملية تجميل".
لم أكذب, مارست فقط هوايتي باللعب بالكلمات, فأنا فعلاً أقوم بعمليات تجميل. ليس للفتيات , إنما للموتى وضحايا الحرب. !
*
قبل عام انضم شقبقي للمعارضة المسلّحة. يومان في فرع فلسطين كانا كفيلان بتحويله من ثائر سلمي , لمقاتل شرس. تخلّى عن كل ما يربطه بماضيه, هويته , عمله , رقم جواله , حسابه على الفيس بوك , وحتى بعض أفكاره.
أثار غيابه تساؤلات الأصدقاء وأبناء الحي , وكلّما سألني أحدهم : " صحيح أخوك مع الثوار ؟ ". كنت ألعب بالكلمات مجيباً : " كل ثائر أخي". لم أكن أكذب. فبعد عدة شهور من حياته كمقاتل , طلب مني انشاء حساب جديد له على الفيسبوك كي نستطيع التواصل, ما لبث أن تحوّل من حساب شخصي إلى حساب لجميع أفراد الكتيبة المقاتلة بسبب وجود جهاز كمبيوتر وحيد. وفي كل مرة كنت أحاول الوصول إليه:
- أخي ..
- أخوك بالجبهة , فيني ساعدك أخي
- شكراً أخي , حبيت اتطمن عليه
أصبح كل من يستخدم هذا الحساب - كل ثائر - أخي . أحببت هذه العبارة ونشرتها على حسابي الشخصي فرحاً باستقبال الاعجابات , وتحويلها إلى شعار يكتب على اللافتات ويبخّ على الجدران. ثم صنعت منها غلافا لحسابي في العالم الأزرق.
*
في احدى المرات القليلة التي استطعت الوصول إليه , أخبرني باعتقال الشااب المسؤول عن عمليات التصميم واعداد الصور الخاصة بهم لنشرها عبرالانترنت , وطلب مني مساعدتهم. قبلت فوراً , فأرسل لي أولى الصور.
كانت مهمتي وضع اسم الشهيد على الصورة , وكتابة سيرته وأعماله البطولية ليُزفّ عريساً إلى أهله. ففي هذه الظروف لا يستطيع الأهل الوصول لجثمان ابنهم , سيدفن بعيدا عنهم , ولن يستطيعوا الوصول إلا لهذه الصورة. اعتقدت أن هذا العمل سهل جداً , لكن حين فكرت بأم الشهيد عندما ترى صورة ابنها أدركت أنني أقوم بأصعب عمل في حياتي.
لا أحد يحب أن يرى تلك الصور الموجعة , كيف ستتحمل الأم صورة ابنها مشوها أو فاقداً لأحد أعضائه ؟.
حرصت أن تكون صورة الموت أكثر جمالاً , إنها الصورة الأخيرة التي لن تغادر الذاكرة. تعمدت اخفاء الدماء ما أمكن, أمحو الجروح البليغة , أخفي مكان الشظية مستخدما اسم الشهيد , أو شعار الكتيبة , أو حتى آية قرآنية.
كانت الصور الأولى أكثر ايلاما وأكثر صعوبة واحتاجت الكثير من الجهد والسهر والوقت , لكن مع تراكم الصور التي شيّعت بها أصدقائي وزملاء الدراسة وأبناء الحي , ومع تصاعد أعداد الشهداء أصبح العمل روتينياً , واجباً يومياً أقوم به قبل النوم. لقد تعودت هذا الشيئ , وأدركت ما حصل لي عندما قرأت لممدوح عدوان " نحن لا نتعود يا أبي إلا إذا مات شيئ فينا " . وكم تمنيت أن يعود للحياة ما مات فيني.
و تحققت أمنيتي في تلك الليلة
*
اعتذرت من الأصدقاء وفتحت صفحة بيضاء أضع فيها صورة الشهيد لهذا اليوم. فتحت الرسالة وتأملت الصورة ...
لم أعرف من أين أبدأ , لم يكن الأمر روتينيا هذه الليلة , ولن أستطيع ايجاد العبارات التي تصف شهيد اليوم .
تأملتها طويلا .. كان وسيما جداً , , لم يكن بحاجة لأي عملية تجميل. لم أستطع أن أفعل شيئ غير تأمل الصورة.
لا أذكر كيف استسلمت للنوم , أذكر أنني استيقظت في اليوم التالي وعلى الشاشة الزرقاء صورة بيضاء كتب عليها
" كل شهيد أخي "
