خلال الشتاء الماضي، سافر عدد من أصدقائي المتخصصين في علوم اللغات إلى سوريا لدراسة اللغة الآرامية. نشر هؤلاء في "فيسبوك"، صوراً من دمشق وصيدنايا ومعلولا، وكتبوا تحت بعضها: "هكذا دمر الإسلاميون الملعونون الأضرحة المسيحية".
ليس مطلوباً من العلماء أن يتعمقوا في أي شيء خارج تخصصاتهم الضيقة. ولهذا، يجلس هؤلاء بهدوء في بلدٍ يعاني - منذ عشر سنين - من تداعيات ثورة، وفوق رؤوسهم صور ديكتاتور أجنبي، ويستدفئون بمدفئة هوائية غير مستقرة الأداء، ويستمتعون بما يحدثهم به مستضيفوهم بلغة آرامية نقية، عن النصر المؤزر الذي حققه النظام. وليس لدى هؤلاء العلماء من تعليق سوى:
"أوه، إن هذه "الصفة" أو هذا "الموصوف" أو هذه "الكلمة" أو هذا "الفعل" مثير للاهتمام!
كتبت تعليقاً تحت إحدى الصور، فتعرضت للشتائم ثم الحظر. ربما خافوا أن يرى أحد من مرافقيهم تعليقي فيسبب لهم مشكلة، أو ربما صدقوا فعلاً ما قيل لهم من أن المسلمين أشرار، وأن الأسد صالح.
تمام!
ثارت في مخيلتي ذكريات رحلاتي العديدة إلى سوريا؛ الأماكن التي زرتها، والأصدقاء الذين قتل منهم الكثيرون، وآخرون عذبوا حتى الموت، وآخرون فروا إلى مختلف المنافي.
زرت معلولا لأول مرة، سنة 2004، ولا زلت أذكر كيف كان السائق يحدثني بصوت خافت عن سجن صيدنايا، وعما يحدث فيه من تعذيب وتنكيل.
وفي عام 2006 سافرت إلى سوريا لتغطية الحرب اللبنانية. يومها ساعدني أصدقائي في عبور الحدود وهم يلحون بوصية، أن "أكتبي الحقيقة!".
ثم سافرت إلى سوريا في عام 2011 للوقوف على حقيقة ما يحدث في درعا، وفي عام 2012 أمضيت بعضاً من الوقت في دمشق، ثم قمت بعدة زيارات إلى مخيمات اللاجئين.
طبيعة البشر
إذا كنت لا تريد أن تعرف أي شيء، فإنك لن تعرف أي شيء فعلا... هكذا هي طبيعة البشر. الصحفيون – بشر أيضاً ولهم ميولهم وخياراتهم رغم ما يظهرونه من حيادية وموضوعية. أدهشتني إحدى الزميلات عندما وافقت بسهولة على تصوير ما يرتكب في السجون من وحشية. كانت تنتقل من زنزانة إلى أخرى وتلتقط صوراً وتكتب ما يقوله لها السجان الأسدي. ثم أرسلت ذلك إلى الجهة التي كانت تعمل فيها، فانتشرت هذه الدعاية الكاذبة بآلاف النسخ.
قبل عام 2015، كان التواجد الروسي في سوريا ضعيفاً، إذ لم يكن هناك صحفيون تقريباً، ولا خبراء عسكريون، ولا حجاج مسيحيون. كان الروسي يزور سوريا لقضاء حاجة محددة، ثم يغادرها فوراً. وفي الـ30 من أيلول (سبتمبر) 2015 أمر بوتين بإرسال قوات مسلحة إلى سوريا، وبدأ القصف، وتدفقت وسائل الدعاية الروسية على سوريا بأعداد كبيرة.
لم يحدث مثل هذا الشيء من قبل، إذ أن الإعلام الروسي لم يأت على ذكر كلمة "الحرب" في الشيشان؛ لا في الأولى، ولا في الثانية. كان الحديث يدور عن عملية مكافحة الإرهاب. رفض الجيش أن يشارك في القتال هناك... أما رجال الشرطة وجهاز الأمن الفيدرالي، فشاركوا في تلك الحرب، وقمعوا الاحتجاجات، وأنشأوا السجون ومعسكرات الاعتقال والترشيح، ونفذوا عمليات تطهير واسعة النطاق، ورموا قنابل يدوية في أقبية تعج بالأطفال وكبار السن... ارتُكبت كل هذه الفظائع ومع ذلك "لم تكن هناك حرب". جمع بوريس نيمتسوف مليون توقيع ضد الحرب، ومع ذلك "لم تكن هناك حرب"... ومن اللافت أن هذا التعتيم حدث رغم أن العديد من الصحفيين كانوا إلى جانب الشيشان.
في جورجيا أيضًا، "لم تكن هناك حرب". كل ما في الأمر أن الجنود الروس ركبوا دباباتهم (سنة 2008)، وتجولوا فيها، وأطلقوا النار، وقتلوا الجورجيين ودحروهم إلى الوراء، والآن يحركون الحدود في عمق الأراضي الجورجية، لا لشيء إلا لإذلال الجورجيين.
أما في أوكرانيا، فليس هناك حرب على الإطلاق، وإنما هي "انتفاضة شعبية" و"حرب أهلية". وفي ما يتعلق بعناصر الشركات الأمنية، والأجهزة الخاصة، من روسيا الاتحادية، فهؤلاء يتواجدون حالياً في كل مكان، ويتدخلون في كل شاردة وواردة؛ من الأكشاك البسيطة التي تبيع الفطائر، حتى شبكات الاتجار بالمخدرات.
وفي ما يتعلق بسوريا، فإن روسيا أعلنت احتلالها رسميا، وتمارس قصفها بموافقة شركائها "المتحضرين".
يصعب علي جداً وصف الذي اعتمل في ذهني يوم الـ30 من أيلول (سبتمبر) 2015، لقد كان نوعاً من الإغماء؛ لا تستطيع معه أن تنطق أو ترى أو تسمع... شيء يشبه الضباب الدموي أمام ناظريك. فخلال السنوات العشرين الأخيرة، عرفنا الكثير جدا من تفاصيل عن الحرب الأفغانية السرية 1979-1989. لماذا "سرية" – لأن أحداً في الاتحاد السوفياتي لم يكن يتحدث عنها، لا في الإعلام ولا في الأحاديث العادية بين المواطنين. وبدأت أسرارها وفظائعها تتكشف بعد ذلك بسنين. وفي عقد التسعينيات، انخرط المشاركون في تلك الحرب بأعداد كبيرة في المجاميع الإجرامية، فقَتّلوا وقُتّلوا.
وفي عام 2007 عرض فيلم من إخراج - ألكسي بالابانوف، عنوانه "الشحنة 200" (الاسم الرمزي للنعش)... فيلم هو الأكثر صراحة وقسوة عن تلك الحرب، وعمن شارك فيها. كنت أعتقد أن الروس، وبعد أن شاهدوا الويلات الذي عرضها ذلك الفيلم، لن يوافقوا أبداً على أي شيء كهذا مرة أخرى.
لكنهم وافقوا
لقد تدخل الروس في سوريا بالاتفاق مع الأمريكيين. أصبح هذا الأمر معروفاً بفضل زلة لسان مايك بومبيو في إحدى مقابلاته. حيث قال إن أوباما دعا بوتين إلى سوريا لكي يلعب دور "الشرطي السيئ"، فوافق بوتين بطيب خاطر. وما إن بدأ القصف حتى ألقى المدون المعروف - أنطون نوسيك، خطاباً قال فيه إنه سعيد للغاية بأن يقتل الروس أكبر عدد ممكن من العرب؛ من الطرفين (معارضة وموالاة) لأن ذلك مفيد لأمن إسرائيل.
لا ينبغي أن نترك هذه العبارة تمر مرورو الكرام، لأنها تتضمن تفسيراً للطريقة التي تقارب بها روسيا المعاصرة، كل ما يحدث في سوريا وفي الشرق الأوسط، بشكل عام.
لقد دفنت الحرب الأفغانية الاتحاد السوفياتي، ودفنت معه شعاراته الزائفة - "تحرير الشعوب المستعبدة".
وعاجلاً أم آجلاً ستدفن "الحربُ السورية" روسيا وما تتمتع به من سحر مذهل في أذهان الأجانب، رغم جليدها ودُببتها. لأن المسلمين لن ينسوا كيف قصف الروس المستشفيات والمدارس، ولن ينسوا الفظائع التي ارتكبها مرتزقة "فاغنر"، وأوضح مثال على وحشية هؤلاء مشهد تعذيب مواطن سوري وتقطيع أوصاله، ثم تنصيب راسه على عمود حديدي، ليلتقطوا معه الصور.
هذا كل شيء
تناقلت مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو صورت في الذكرى العاشرة للثورة السورية، في مدينة درعا. شاهدتُ العديد من هذه المقاطع، ولاحظت كيف يتظاهر أهالي تلك المدينة في نفس المكان الذي قُتل فيه إخوتهم في ربيع 2011 برصاص قناصة النظام، وترسخت لدي الثقة بأن سوريا سوف تنهض من تحت الرماد الروسي. فالشعوب التي دافعت بثبات عن حريتها - كان الفوز دائماً حليفها، وأما أعداء الحرية أنصار الاحتلال والقمع - فملعونون إلى الأبد.
ناديجدا كيفوركوفا
كاتبة صحفية، عملتْ في صحف ومواقع وقنوات تلفزة،
لها كتابان عن الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني.
شاركت في حملتين بحريتين لكسر الحصار عن قطاع غزة - "أسطول الحرية" 2008، و"أسطول الحرية" 2015، وفي الحملة الثانية اعتقلتها السلطات الإسرائلية وبقيت في السجن مدة أسبوع، إلى أن تدخلت السفارة الروسية.
كتبت سيناريو مسلسل وثائقي يتألف من 34 حلقة، من إنتاج قناة "ألِف" التلفزيونية، يبحث في ما كتبه عدد من الكتاب الروس المشهورين، عن الإسلام والمسلمين والقوقاز والشرق الأوسط.