ماكرون وسياسة فرنسا العربية
(عن القدس العربي)
ازداد اهتمام أوروبا، وخاصة فرنسا، في المنطقة العربية على أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا، وبلغت ذروتها مع التنظيم الرائع للمونديال في قطر، وتألق الفريق المغربي، وهذا الاهتمام المتأخر جاء على خلفيات طلب الطاقة التي افتقدتها أوروبا بعد قطع شريان الغاز الروسي.
الأوضاع في الشرق الأوسط
وتمثل الاهتمام الفرنسي في الزيارات الماراثونية للرئيس إيمانويل ماكرون لأكثر من دولة عربية، والمشاركة في عدة مؤتمرات عقدت في دول عربية، إذ شارك في 20 كانون الأول/ديسمبر من العام المنصرم في “قمة بغداد 2” في الأردن حيث تم بحث الأوضاع في الشرق الأوسط ومواجهة التحديات.
وحضر ماكرون قمة المناخ “كوب 27” التي عقدت في شرم الشيخ في مصر في 6 تشرين الثاني / نوفمبر، والتقى على هامش القمة مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، والرئيس الجزائري عبد المجيد تبون. ثم حضر قمة الفرانكوفونية في تشرين الثاني/نوفمبر في جزيرة جربة في تونس، والتقى مع الرئيس التونسي قيس سعيد.
حل الخلافات السياسية
واختتم العام بحضور مباراتي نصف النهائي والنهائي للمنتخب الفرنسي في كأس العالم في قطر.
وهذه الزيارة كانت الأخيرة في العام 2022 لكن سبقتها زيارات عدة، بدأت بزيارة الإمارات في أيار/ مايو الماضي لحضور جنازة رئيس الإمارات الراحل خليفة بن زايد، التقى خلالها مع الرئيس الموريتاني محمد ولد الغزواني، تبعها زيارة للجزائر في آب/أغسطس تم خلالها حل الخلافات السياسية والتاريخية وبالطبع التزود بالطاقة.
وفي باريس استقبل ماكرون عدة زعماء عرب منهم ملك البحرين، والرئيس المصري، وولي العهد السعودي، والرئيس الفلسطيني، ورئيس الإمارات. مع زيارات لوزير الداخلية إلى الجزائر ووزيرة الخارجية إلى المغرب الشهر الماضي. بالتأكيد أن اهتمام الرئيس الفرنسي في العالم العربي لا يقتصر على التزود بالطاقة، بل خلفها عدة اهتمامات أخرى تتمثل في السعي لإنهاء الهيمنة الإيرانية في الشرق الأوسط وخاصة في العراق، العمل مجددا لإخراج لبنان من أزمته السياسية والاقتصادية، دعم الأردن اقتصاديا، تصفية الأجواء بين فرنسا والجزائر والمغرب حيث من المقرر أن يزور ماكرون المغرب في بداية العام 2023 من أجل التعويض على إخفاق فرنسا في مالي، ومحاولة لمنع التغلفل الصيني الروسي في القارة السمراء التي تعتبرها فرنسا حديقة خلفية لها.
هذه الرغبة الفرنسية في العودة بقوة إلى العالم العربي هي محاولة لا سابق لها منذ أكثر من نصف قرن، بعد أن شابت العلاقات العربية الفرنسية الكثير من التقلبات.
نظرة تاريخية
أكثر الدول الأوروبية التصاقا مع العالم العربي هما فرنسا وبريطانيا، وتميزت العلاقات الفرنسية العربية أنها علاقات متأرجحة صعودا وهبوطا، ولكن في معظمها كانت علاقات توتر، أو نزاعات مسلحة، منذ بدايات القرن الثامن حيث كان اللقاء الأول بين العرب والفرنجة.
وهذا اللقاء تمثل في معركة كبيرة بين جيش المسلمين بقيادة عبد الرحمن الغافقي، وجيش الفرنجة بقيادة شارل مارتل في معركة (بلاط الشهداء) بواتييه الشهيرة في العام 732 والتي هزم فيها العرب (وصل الجيش العربي الإسلامي إلى مدينة تور على بعد 200كم من باريس)، هذه الهزيمة وضعت حدا للتوسع العربي الإسلامي في القارة الأوروبية. ورسخت عداء دينيا على مدى قرون، ورغم أن الخليفة هارون الرشيد قد حاول الانفتاح على مملكة شارلمان (حفيد شارل مارتيل) الفرنسية مع بدايات القرن التاسع، بإرسال هدية الساعة كأول اختراع آلي عربي لقياس الوقت، إلا أن شارلمان أمر بتحطيمها ظنا منه أنها كانت كحصان طروادة، وأن المسلمين أرسلوا له شيطانا داخلها.
ودخل العالم العربي والإسلامي في مواجهة مباشرة مع الفرنجة (الفرنسيين)، في العام 1096 الذين قادوا الحملات الصليبية في فلسطين وسوريا ومصر والتي استمرت لغاية 1270 بهزيمة الحملة الثامنة التي قادها الملك الفرنسي القديس لويس التاسع، والذي توفي بعدها في تونس.
خلال فترة العصور الوسطى كان الغرب بشكل عام يقع تحت سيطرة الكنيسة، وكان منشغلا بخلافاته الدينية، ويقيم مع المنارة العلمية العربية الإسلامية في الأندلس علاقات تعايش لينهل من علومها ومعارفها، قبل أن تنقلب الآية ويبدأ عصر التنوير في أوروبا وعصر الانحطاط في العالم العربي الإسلامي، ويتحول الصراع الإسلامي المسيحي إلى إسطنبول بعد الفتوحات العثمانية والاستيلاء على القسطنطينية (1453).
العصر الاستعماري
مع بدايات القرن السادس عشر بدأ حكم آل البوربون فرنسا وكان همهم إرساء قواعد حكمهم القائم على الإقطاعية الزراعية وكانت علاقاتهم مع العالم العربي والإسلامي علاقات تجارية، وودية مع السلطنة العثمانية، لكن مع سقوط الملكية وقيام الثورة الفرنسية على أيدي البرجوازية الصاعدة، وبدء العصر الصناعي، تغيرت قواعد اللعبة وبدأ العصر الاستعماري الباحث عن المواد الأولية والأسواق المفتوحة، وتجلت هذه الهجمة الاستعمارية في مغامرة نابليون بونابرت بحملة مصر (1798) التي أعادت حالة الصدام العربي الفرنسي، (ارتكب نابليون مجازر مروعة في حيفا وفي مصر)، ورغم فشلها لم يثن فرنسا من احتلال الجزائر (1830ـ1962)، ثم احتلال وتونس(1881ـ1956)،ثم المغرب (1912ـ1956)، تخللت هذه الفترات ثورات عدة وصدامات عنيفة مع القوات الفرنسية.
وشاركت فرنسا مع بريطانيا بإسقاط السلطنة العثمانية وخداع الشريف حسين الذي تحالف معهما مقابل بناء المملكة العربية المستقلة، باتفاقية سايكس بيكو، ووعد بلفور، والانتداب للسيطرة على المشرق بكامله وتقسيم البلاد إلى دول بالقلم والمسطرة.
واتسمت الفترة الاستعمارية الجديدة بمواجهات شعبية وثورات ضد الفرنسيين والبريطانيين، ووصلت أوجها في الخمسينيات وبداية الستينيات حيث قامت الثورة الجزائرية (1955)، وحرب السويس الفرنسية البريطانية الإسرائيلية (1956). وحده الجنرال شارل ديغول جاء ليعدل سياسة فرنسا العربية بالاتفاق على استقلال تونس والجزائر والمغرب، وفي الحرب العربية الإسرائيلية (1967) اتخذ موقفا مؤيدا للعرب بحظر الأسلحة على إسرائيل (فك هذا الحصار رئيس الوزراء شابان ديلماس فيما بعد)، خلال فترة العقدين اللاحقين انفتحت فرنسا على العالم العربي وازدهرت تجارتها وخاصة الأسلحة للعراق وليبيا تخللتها صدامات بين حزب الله والقوات الفرنسية في لبنان (1983)، ثم قوات ليبية بسبب التدخل في الشؤون التشادية (نهاية الثمانينيات)، ثم التدخل في عاصفة الصحراء عندما سمح الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران للجيش الفرنسي للدخول في التحالف الدولي ضد العراق بعد احتلال الكويت. (ورفض الرئيس جاك شيراك فيما بعد المشاركة في الحرب على العراق وأسقاط نظام صدام حسين)، ثم في ليبيا مجددا في عهد الرئيس نيكولا ساركوزي الذي ساهم في إسقاط نظام القذافي.
وكانت هذه المواجهة العسكرية آخر مواجهة في العالم العربي.
ويبدو أن الرئيس إيمانويل ماكرون يبحث اليوم عن ترسيخ سياسة انفتاح جديدة على العالم العربي تكون فيها فرنسا كشريك تجاري واقتصادي قوي يعود بالنفع على الطرفين بالاتجاهين.