توفي المفكر الإسلامي السوري، جودت سعيد، اليوم الأحد، عن عمر يناهز 91 عاما في مدينة إسطنبول التركية، وذلك بعد مسيرة حافلة من العطاء عمل جاهدا خلالها على إرساء مفهوم اللاعنف في الاسلام وفي عملية بناء الدولة وتغيير النظام ، ويعتبر امتدادا للمفكرين الاسلاميين الذين يدعون الى قيام دولة مدنية ديمقراطية تحترم الجميع بمنأى عن الانقلابات العسكرية.
حياته
من مواليد بئر عجم القنيطرة، أتمّ جودت سعيد دراسته الابتدائية في مدينة القنيطرة، ثمّ أرسله والده لمتابعة دراسته في مصر (الأزهر الشريف) في عام 1946م. فأتمّ هناك المرحلة الثانوية، والتحق بكلية اللغة العربية، ليحصل على إجازة في اللغة العربية منها.
تعرف على الأستاذ مالك بن نبي في آخر مراحل وجوده في مصر من خلال كتاب شروط النهضة، فشعر بنكهة جديدة تقدمها كتابات الرجل، ثم واتته فرصة لقائه والتعرف عليه شخصياً قبل مغادرة مصر نهائياً.
زار السعودية بعد ذلك ليقضي فيها نحو عام، تمّت خلالها ولادة الجمهورية العربية المتحدة بقيام الاتحاد بين سوريا ومصر. ثم ّعاد إلى سوريا لتأدية الخدمة العسكرية، وأثناء تواجده في صفوف الجيش حدثت واقعة الانفصال. وفي حين امتثل الجميع لأوامر القادة في قطعته العسكرية، أعلن رفضه ومعارضته المشاركة في أي تحرك عسكري، مما دفع القادة المسؤولين عنه إلى حجزه في الإقامة الجبرية، ولم يغادرها إلا بعد انقضاء الأمر.
أنهى خدمته العسكرية ليعين أستاذاً في ثانويات دمشق كمدرس للغة العربية، وما لبث أن اعتقل لنشاطه الفكري. وتكررت الاعتقالات، ورغم صدور قرارات بنقله إلى مختلف مناطق سورية إلا أنه لم يترك مجال التدريس إلا بعد أن تم اتخاذ قرار بصرفه من عمله في نهاية الستينات.
وفي عام 2011 انحاز الى الشعب في ثورته على النظام ، وتابع جهاده بالقرآن وعمل على استمرار نشر فكره اللاعنفي والذي وضّحه في انتاج غزير نشره على شكل كتب ومقالات مطولة، ولقاءات مسجلة نذكر منها:
مذهب ابن آدم الأول ،اقـرأ وربـك الأكرم ،الديـن والقـانـون ،حتى يغيروا ما بأنفسهم ،كــن كـابـن آدم ،العمل قدرة وإرادة ،رياح التغيير ،مفهوم التغيير ،الإنسـان كلاً وعـدلاً ،فقدان التوازن الاجتماعي ،لم هذا الرعب كله من الإسلام العبودية المختارة ،أيها المحلفون الله لا الملك ..
منهج اللاعنف في الاسلام
كان المفكر جودت سعيد يطرح فكراً إسلامياً مختلفاً عن السائد خصوصاً بما يتعلق بـ "العنف" من خلال محاضراته في جامع "المرابط" في دمشق، ومن خلال أول كتبه المنشورة حيث رد على اتجاه الإخوان المسلمين في ممارسة العنف السياسي والتي أخذت بالتصاعد منذ ستينيات القرن الماضي حتى بداية الثمانينيات.
وقد بيّن جودت سعيد في كتابه الفروق بين الجهاد في مرحلة بناء الدولة، وبين الجهاد بعد ذلك، وكان هذا في معرض رده على بعض الشبه المثارة حول فكرة اللاعنف وتناقضها مع الجهاد بمعنى القتال، وهو ما ثبت أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قد مارسه أثناء دعوته. ويأتي الجهاد في مرحلة بناء الدولة أو الحكم الراشد أو الديمقراطية جهاداً لا عنفياً حصراً حسب جودت سعيد، فلا يجوز الوصول إلى السلطة والحكم بالقوة وبالسيف، فكل من أخذ بالسيف بالسيف يهلك، والتغيير بالقوة لا يغير المجتمع وإنما يذهب هرقل ويأتي هرقل، ولذلك فقد منع الرسول (صلى الله عليه وسلم) أصحابه من الدفاع عن أنفسهم أثناء وجودهم في مكة، وإنما سمح لهم الجهاد بالسيف بعد أن تشكل المجتمع الراشد في المدينة بدون ممارسة عنف وإنما بإقناع الناس، وعندما يتشكل المجتمع الراشد يصبح من واجبه نصرة المظلومين والدفاع عن سلامته.
تكمن قوة فكر سعيد في اعتماده على روح الدين الإسلامي في التفسير ، فهو لا يستند إلى كتابات غاندي أو إلى علوم الإسلام التي نشأت في الغرب. ورغم أن العديد من الباحثين المسلمين قد تطرقوا إلى موضوع اللا عنف؛ فإنه أكثر مَن تمكن من إضفاء الشرعية العقائدية على تلك الأفكار.
لم يتخلَّ سعيد عن أفكاره اللا عنفية حتى عندما اندلعت الثورة السورية عام 2011، وظل الرجل العجوز مخلصاً لمبادئه، مقتنعاً أن “عنف التظاهرات سيمنح النظام ذريعة لممارسة عنف مضاد، وفي النهاية خلق حالة من الفوضى بين الضحايا والجلادين؛ وهذا ما حدث”.
في النهاية، تم استدعاؤه من قِبل المخابرات السورية، وأُجبر على “مراجعة آرائه”؛ لكنه رفض ذلك مفضلاً السفر مع عائلته إلى تركيا، في ضواحي إسطنبول. حيث ختم حياة غنية وترك ارثاً فكرياً عظيماً جمعه في موقع الكتروني يحمل اسمه ويجمع ارثه المكتوب والمسموع والمرئي .