مثل كل صباح ...
استيقظت مبكرة، بدأ النهار...
وضعت ركوة القهوة على النار، أعدت فنجانين تعلم مسبقاً، أنها لن تشرب أحدهما، توقفت عن هذه العادة منذ زمن. أعطت لزوجها المسترخي على الأريكة،يسمع أخبار الصباح، الفنجان الآخر. غمغم وهو يتناول قهوته وينظر إليها، نظرته الغائمة التي لا يراها بها...
"أخبار بائسة وقهوة باردة".
تظاهرت أنها لم تسمع ما قاله، لم تغضب، فقط فكرت بحياد تام، ما الذي يجبرها على قبول هذه الحياة
همست لنفسها:
أن أفقد غضبي، يعني أنني انكسرت، وأغلقتِ إلى الأبد المسافة التي قطعتها عبر الزمن لأعود إلى ما كنته يوما.
أضافت في حزن بزغ للتو، مالبث أن انطفأ، ما أصعبه من فقد...
أسرعت إلى المطبخ، أخرجت كيس الخضار الذي قطعته في المساء، من البراد، وضعت قليلاً من اللحم والبصل في الطنجرة، أهالت الخضار المقطعة فوقهم، أضافت القليل من الماء أحكمت الغطاء، وخففت النار.
أعدت الجبنة واللبنة والزعتر لفطور الصباح، لم تنس الشاي. هيأت سندوتشات الأوالد، وضعتها في أكياس نظيفة، وبين هذا وذاك كانت ترتب ما تناثر، من فوضى المساء، وتعيده إلى مكانه، ومع كل حركة تفتح النافذة، لتتأكد فيما إذا كان ثمة قصف هناك، ومن أي جهة يأتي. مع أنها تعرف أنه قد يأتي من أي جهة وعلى حين غرة.
غسلت وجهها ويديها، سرَّحت شعرها، التقت لبرهة بعينيها في المرآة، وجه مطفأ وعينان غائمتان.
لم يعد هذا مهماً. كان الوقت هو ما يهمها الآن، الوقت الذي يسمح لها، أن تجهز نفسها وطفليها للخروج. تضع ابنتها في المدرسة، والصبي في عهدة الأم، لتصل إلى عملها في الوقت المحدد.
تناهى لها صوت زوجها يتساءل ساخراً، وهو ما يزال في مكانه مسترخيا، تحت شمس الصباح الخجولة:
"قهوة باردة، وزوجة باردة، قرف كله قرف". حملت الصبي، وأمسكت بيد البنت، فتحت الباب وانطلقت في طريقها هائمة. لم يفلح الهواء الطري، ولا انبثاق النهار الجميل، في تهدئة أفكارها.
عبرت الشارع المزدحم، الصباح محمل بالقلق، الفوضى مجنونة، رائحة الحرب تجثو على رئة المدينة، الزمان والمكان يتشظى بمشهد الموت اليومي. الخوف سؤال على وجه الجميع.
تغيرت الأمور، فقدت الحياة طبيعتها، ثمة وجوه غاضبة تعبر من هناك، تريد شيئا مختلفاً عن عذوبة الحياة ورخاوتها.
حتمية الأمور تقول، التغيير قادم لا محالة...
وصلت متأخرة، انتظرت بقلق دخول ابنتها مع المشرفة، تفرست بلهفة في الوجوه من حولها، زاغت عيناها، خيل إليها للحظة، أن هناك عيوناً تراقبها، وربما أحداً ما، ينتظر ذهابها لينقض ويختطف ابنتها.
حوادث الخطف الأخيرة، أثارت رعب الجميع، والخوف أصبح رفيقاً ثقيلا، يلتهم طمأنينة أصبحت بعيدة المنال.
أسرعت وهي تكاد تجري إلى بيت والدتها، أعطتها الصبي وهي لا تكاد تجمع أنفاسها، من على الباب، دون أن تتفوه بكلمة، ومضت مسرعة، متجاهلة نظرات الأم القلقة وتوصياتها اليومية:
"انتبهي، ابنتي الله يرضى عليك، إلى كل ماحولك، لا تتكلمي مع أحد، لا تجادلي أحد خاصة عند الحواجز".
ودت للحظات أن تتريث، أن تضع رأسها على كتف أمها، وتبكي طويلا، ولكنها لم تفعل.
أشارت إلى الحافلة القادمة، وصعدت إليها.
وضعت نفسها على أول مقعد في الحافلة، وهي تجفف عرقها وتسترجع أنفاسها وترتب ثيابها.
كانت الحافلة العجوز تئن تحت وطأة الزحام كالعادة. وجوه، متعبة، قلقة، غاضبة، لا مبالية. روائح خليطة، من بقايا مطبخ وعرق وعطر رخيص.
ومع ذلك بدأ نسيم الصباح العاري المتسرب برخاوة من الشباك المفتوح، وصوت فيروز الصباحي يهدهد بعضا من تعبها استرخت قليلاً...
مشوار الحافلة الذي أصبح يستغرق أكثر من الساعة يومياً إلى عملها بسبب الحواجز العديدة، التي تقطع المدينة، كان هو الوقت الأجمل في يومها الدائم التعب. رغم الزحام والغضب، والضجيج، وجو الحرب الكئيب، والروائح الكريهة والوجوه المتعبة، إلا أنها اعتادت أن تجعل منه وقتها هي، مساحتها البخيلة من الزمن لتكون هي، تترك لإرادتها أن تستجيب لإغواء هذا الوقت المستقطع، تذهب معه حيث يشاء، تترك لروحها المتعبة العنان، إلى حيث يتقاطع وجع القلب مع طقوس أغنية مجروحة بالحنين، في حافلة صغيرة محشورة بالبؤس والاستسلام، تنساب دموعها دون قيد، فتستعذب ملوحتها وتلامس قلبها، تستعير حياة وأحداث افتراضية تعلم أنها ليست لها، ولكنها تعلم أنها تشبهها، وتريدها.
اجتاحها صوت فيروز من الأعماق، كانت أغنية حب، في هذا الصباح المحمل بصوت الحرب والقلق والخوف، وفي هذه الحافلة الفقيرة المكتظة، ولكنها كانت كافية لإيواء أحلام يقظة، ومشاريع مؤجلة، وسط أناس غير مكترثين، إلى أين يذهبون.
ابتسمت في سخرية، وهل هذا وقت الحب؟ ومع ذلك وجدت نفسها تبتسم، هي أيضا أحبت، أحبت ذات يوم.. وابتسمت بمرارة لصورة زوجها المقطب، الذي أصبح بلا عمل.
لم يكن وقتها مقطباً، ولم يكن غاضباً...
كان الحب، الورطة الجميلة، المتاهة الغامضة التي يتداخل بها الواقع بالدهشة، بفك الألغاز، بأشياء كثيرة معقدة.
ما أكثر ما تغير كل شيء...
لم يكونا قد انكسرا بعد...
ما أكثر ماغيرتهم الحياة، عندما أدركوا أن هناك الكثير من الجهد، الكثير من الألم، سرق منهم زهوة الفرح والحلم
لم يصمدا، غادرهما الحب ، لم يطل الإقامة...
وكيف لها أن تنسى، وتلك التفاصيل الصغيرة تتمطى في دهاليز الذاكرة ، تتشربك بها كلما حاولت أن تدير ظهرها لذكريات تتعربش بتأن على جدار القلب والروح، وتأبى أن تبرحه.
أرادت يوماً أن يكون لها مجازها الواسع من الحياة، أرادته مريحا مضيئا، فيض طافح بالحماس كان يرتعش في قلبها، كانت تنتمي بقوة للحياة، يداهمها الذعر أن لا تكون في قلبها، ألا تمنح مكانا بأبعاد كاملة بما يكفي.
لم يكن لها ما أرادته، ماأكثر ما تغير كل شيء
وصلت متأخرة كما في كل مرة إلى عملها، واجهها مديرها بوجه مكفهر وعينين جاحظتين، وبخها علنا أمام الجميع، عاقبها واقتطع من راتبها، حاولت أن تشرح له، البيت والمدرسة، والمواصلات والحواجز، لكنه شأنه شأن الجميع لا يريد أن يسمع أو يفهم، لم يكتف بل وجه لها إنذارا بالفصل
كانت تعيسة، تعيسة جداً،إلى حد وجدت نفسها تقول له باستهتار:
أنت جبان...
أعماه الغضب، لم يدعها تكمل، أشار إليها بإصبعه، ونبس باحتقار:
أنتِ مطرودة ...
حريق اشتعل في دمها، غضب قديم استيقظ داخلها، لا حدود تؤطره ولا مسافات، أوجعتها حنجرتها، الدموع غشت بصرها، من دون مقدمات، ولا سابق تصميم، رغبة جامحة تلبستها، بدأت تحكي وتصرخ، تدفق الكلام حاراً، من نبع فاض مخزونه ففاض، لم تعرف ماقالته، قالت أشياء كثيرة مخيفة، سّبت وشتمت وأوغلت، لم تغفل أحداً، ولا شاردة ولا واردة، في هذه اللحظات، لم يكن صوتها المبحوح من هز فضاء المبنى الكبير، كان وحشها الصغير، تمردها القديم قد استيقظ، واجهتها وجوه الزملاء المدهوشة، وجه المدير المذعور.
لم تكف، أصابها مس من الجنون اقتادتها أيدي إلى تحقيق مؤلم وسريع، ثم أطلق سراحها بداعي الجنون.
في المساء، حين خيمت العتمة، وضعت رأسها على الوسادة، بكت قليلاً، ثم استغرقت في النوم
في انتظار يوم جديد...