حلم مبتور (قصة قصيرة)

رياض معسعس - صحفي وإعلامي سوري
الخميس, 25 فبراير - 2021
علم الثورة السورية
علم الثورة السورية

طغت الفوضى، والضوضاء، على أرجاء القاعة الفسيحة، مدير الجلسة يكابد نفسه عناء بصراخ لا يسمعه أحد، وبضرب حاد على الطاولة بقبضته. في زاوية المكان، أسندت رأسي إلى حائط بارد مراقبا بعينين حائرتين القاصي والداني، القائم، والقاعد، مصغيا، بين فينة وأخرى، إلى نقاشات في مشكلات الوطن، يخيل للمستمع، إذا استمع، أن حلها الجذري بيد المتحدثين بها. 

دخان اللفائف الفرجينية خيوط تتراقص في الفضاء، ملتوية، ومتداخلة بعضها في منحنيات بعض، كأشباح في معركة. كحال الحاضرين. بعض ينادي بالقضاء على الأنظمة العربية العميلة، بهتافات موزونة الإيقاع، وبعض يطالب بالقضاء على الصهيونية، والإمبريالية الأمريكية، وثلة تنادي بالوحدة العربية، وقلة ترفع شعار الجهاد المقدس، وآخرون يسجلون مواقف ثورية على المطالبين بالديمقراطية. الحابل اختلط بالنابل. مدير الجلسة لا يكف عن الصراخ، والضرب بقبضته على الطاولة. بارد الأعصاب كجسد في ثلاجة، كانت عيناي تدوران في محجريهما، تراقبان المشهد دون اكتراث.

في غمرة الفوضى، وهدير الأصوات المتنافرة، كجوقة موسيقية لا تناغم بين عازفيها، دندنت في خلدي نغما قديما يتغنى بمال الشام، أخرجني من الجو المشحون، ومن جار لي كرسي كرسي، لا يتوقف عن الثرثرة والتدوين في مفكرة.

أقفلت جفني، تخيلت بحرا أزرق، وشمسا تنشر الضوء، والدفء، من الأفق إلى الأفق، وشاطئا مديدا تمتد مياهه، وتنجذر تحت قدمي، كأصابع أم تدغدغ قدمي طفلها لتسمع من فمه ضحكة. أمعنت النظر في الغسق، تخيلت قاربا مبحرا في العمق يتجه نحوي بشراع منتفخ، ككرش زعيم عربي. رسمت خلف الشراع ظلالا خفيفة تتراقص لفاتنة فتية. أسدلت الشراع كستارة مسرح، وأظهرت فتاتي بفستان أبيض يلعب به الريح كفينوس آتية من شواطئ الإغريق. وعلى صدرها قلادة بكلمة ديمقراطية.

في ذروة خيالي سمعت أصواتا منبعثة من أودية سحيقة تنادي بالثورة الشعبية، واكتشفت أن جاري الثرثار يتلصص على حلمي ويدون في تقريره: يحلم بجاسوسة أجنبية تحمل سلاحا باسم الديمقراطية.

تابعت حلمي المبتور غير مبال. الفتاة رشقتني بنظرة أنثوية، دبت في نفسي دبيب حشرة بأربعة وأربعين كراعا، سائلة:

- بماذا تحلم.

- أجبت سريعا: بالحرية.

جاء من يصرخ في أذني ثورة، ثوة حتى النصر، جاري الثرثار ردد كببغاء: ثورة ثورة حتى النصر. ودون في تقريره: يحلم بعاهرة اسمها حرية.

أودعت لفافة رخيصة في زاوية شفتي، آخذ من جوفها، وتأخذ من جوفي، واستعدت حلمي المبتور، كانت الريح تعوي، وللريح صولات، تضرب في القلاع، وبفستان الفاتنة فتحسره عن فخذين بضين، جاري الثرثار دخل في حلمي سريعا وقال: هلا جعلتها تحسر الفستان أكثر لنرى ما لا نرى.

فجأة ودون تخطيط مني، تعكر حلمي، صار البحر رماديا، سطح الماء القاني ابتلع القرص الأرجواني، وسفحت دماء على سطح الأفق. وأبحر المركب عائدا من حيث أتى، والفتاة تلوح بيدها مودعة، وترسل لي قبلة في الهواء.

صحوت من حلمي فإذا بأحذية تتطاير في فضاء القاعة، وكراس تتكسر على الرؤوس، أصحاب الميمنة يغيرون على أصحاب الميسرة، ومن في القلب يهاجمون من في المقدمة، ومدير الجلسة يصيح، ويضرب على الطاولة، فأصابه حذاء، وتبعه كرسي، فوليت وجهي شطر الباب أنشد السلامة. فإذا برجال السلطان تنقض، وتقبض علي بتهمة الحلم بالحرية.


الوسوم :