على تلةٍ مرتفعة جنوب مدينة رأس العين، يقف قصرٌ مهجور تحيط به أشجار يابسة، شاهداً على تجربة زراعية واقتصادية كانت من الأبرز في تاريخ الجزيرة السورية. القصر المعروف باسم «قصر أصفر ونجار» ما زال قائماً رغم ما مرّ به من مصادرة وإهمال، ويطلّ على أراضٍ كانت حتى منتصف القرن الماضي خضراء ومليئة بالحياة.
تقع رأس العين على بُعد نحو 85 كيلومتراً من مدينة الحسكة، وتتميّز تاريخياً بوفرة مياهها العذبة والمعدنية والكبريتية، وبخصوبة أراضيها الممتدة على ضفاف نهر الخابور. وقد شكّلت هذه المقومات أساساً لازدهار زراعي لافت، كان من أبرز تجلياته محمية «أصفر ونجار».
تجربة زراعية سبقت عصرها
في أربعينيات القرن الماضي، امتلكت عائلتا أصفر ونجار مساحات واسعة من الأراضي الجرداء على ضفاف الخابور. وخلال سنوات قليلة، تحوّلت هذه الأراضي إلى مزارع منتجة امتدت حتى قرية المبروكة، على مساحة قاربت 32 ألف دونم، خُصِّص منها نحو 40 دونماً كمحمية خضراء.
زُرعت الأراضي بالقمح والشعير والقطن، كما أُدخلت زراعة الأرز إلى المنطقة مع إنشاء مقشّرة خاصة به. وفي منتصف خمسينيات القرن الماضي، غطّى إنتاج هذه المزارع حاجة السوق السورية من الأرز، في وقتٍ كانت فيه البلاد تعتمد إلى حدّ كبير على الإنتاج المحلي من الحبوب.
في قلب هذه الأراضي، بُني قصر العائلة ليكون مقراً للإقامة ومتابعة العمل الزراعي، قبل أن يتحوّل مع الوقت إلى معلمٍ معروف في رأس العين.
من ديار بكر إلى الجزيرة السورية
تنحدر عائلتا أصفر ونجار من أصول استقرت في ديار بكر، حيث عملتا في تربية دودة القز وصناعة الحرير، قبل أن تنتقلا عام 1930 إلى القامشلي وتؤسسا معاً مؤسسة «أصفر ونجار».
مع انتقالهما إلى الجزيرة، بدأتا بشراء مساحات واسعة من الأراضي الزراعية في القامشلي ومحيطها، وفي مناطق الخابور ورأس العين. وخلال سنوات قليلة، تحولت المؤسسة إلى أكبر قوة زراعية منظمة في شمال شرقي سوريا، ومثال لما عُرف آنذاك بـ«البرجوازية الوطنية» المرتبطة بالإنتاج لا بالمضاربة.
قاد مسعود أصفر التحول الأكبر داخل المؤسسة، فدفع باتجاه إدخال المكننة الزراعية، وتأسيس مشاريع ري حديثة، وإنشاء مراكز للأبحاث والتجارب الزراعية، إضافة إلى بناء قرى نموذجية ونظم تعاونية للفلاحين. وأسهمت المؤسسة في إدخال الجرارات والحصادات إلى الجزيرة قبل معظم بلدان المشرق، وأقامت مشاريع ري كبرى على نهر الجغجغ ونبع عين الزرقا ونهر الخابور، ووفّرت آلاف فرص العمل، وربطت الإنتاج الزراعي المحلي بالأسواق السورية والأوروبية.
التأميم ونهاية المشروع
بدأ تراجع هذه التجربة مع سياسات الإصلاح الزراعي في أواخر خمسينيات القرن الماضي، قبل أن تنتهي فعلياً عام 1969 بقرار صادر عن حكومة حزب البعث، سمح لوزير الإصلاح الزراعي بحرمان جميع أفراد مؤسسة «أصفر ونجار» من التملك، حتى ضمن السقف القانوني المسموح به.
جرى نزع ملكية الأراضي، ومصادرة الآليات ومشاريع الري، إضافة إلى القصر ومساكن العائلة ومكاتبها في رأس العين والمبروكة. وغادرت العائلة المنطقة لاحقاً، واستقر بعض أفرادها في لبنان.
قصرٌ مُصادَر وذاكرة مكسورة
يروي أبناء المنطقة أن القصر تعرّض للتخريب عقب المصادرة مباشرة. ويذكر أحد الشهود أن زوجة أحد أصحاب القصر قامت بتكسير أجزاء من المنزل بنفسها، عندما جاءت الدولة لمصادرته وإخراج أهله منه، في تعبيرٍ عن قهرٍ شديد أمام فقدان المكان.
لاحقاً، استخدمت الأجهزة الأمنية التابعة للنظام السابق القصر كمكانٍ للاستجمام، وكان يُفتح أحياناً لاستقبال مسؤولين خلال زياراتهم للمنطقة.
إهمال مستمر بعد 2011
بعد اندلاع الثورة السورية عام 2011، دخلت رأس العين مرحلة جديدة من التدهور. ومع تغيّر القوى المسيطرة، لم تُحفظ محمية «أصفر ونجار»، ولم تُتخذ أي خطوات جدية لإعادة تأهيلها أو حمايتها.
ومع سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) على المنطقة لاحقاً، ازداد الإهمال. تُركت المحمية بلا صفة قانونية واضحة، وتعرّضت أجزاء منها للتعدّي، في ظل تراجع منسوب مياه الخابور وسوء إدارة الموارد المائية.
اليوم، ما زال القصر قائماً على التلة، وما زالت الأرض تحمل آثار ما كانت عليه، لكن المكان يُترك مرةً أخرى من دون حماية أو اهتمام، لتبقى تجربة «أصفر ونجار» شاهداً على ذاكرة زراعية صودرت أولاً، ثم أُهملت لاحقاً.