التنمية الريفية: الركيزة الاستراتيجية لاستقرار سوريا

د. عامر النمر
الخميس, 25 سبتمبر - 2025

أتألم عندما أرى نسبة لابأس بها من الشباب السوري من أبناء الريف تضطرهم الظروف القاسية إلى ترك قراهم والبحث عن عمل في المدينة. كثيرون منهم عادوا من الهجرة محمّلين بالأمل أن يجدوا في جذورهم الأولى بداية جديدة، لكن قسوة الجفاف وتراجع الزراعة وانعدام المشاريع الإنتاجية دفعتهم من جديد إلى طرق أبواب المدن المزدحمة. مشهد يختصر معاناة جيل كامل، جيل لا ينقصه العزم ولا الانتماء، غير أن ما يحتاجه هو مشاريع ودعم يرسخان مكانة الريف كمصدر للحياة والاستقرار

إزاء ذلك، تقف سوريا الجديدة أمام امتحان وجودي يتجاوز إعادة الإعمار السياسي والاقتصادي، ليصل إلى قلب الحياة اليومية للسوريين حيث يصبح التحدي الأكبر هو التكيف مع ندرة المياه واتساع رقعة التصحر وضمان بقاء الريف حياً ومنتجاً. ولو عدنا عشرين عاماً للوراء لرأينا كيف أن أزمة جفاف 2006 كانت صدمة اجتماعية هزّت بنيان المجتمع السوري. إذ تشير دراسة ريتشارد كلي (Richard Kelley) المنشورة في مجلة الأكاديمية الوطنية للعلوم الأمريكية إلى أن نحو 1.5 مليون شخص هاجروا من الأرياف السورية إلى المدن بين عامي 2006 و2010 بعد أن فقدوا أراضيهم ومصادر عيشهم، وهو ما تسبب بضغط خانق على البنية التحتية، وتضخم الأحياء العشوائية، وزيادة البطالة والفقر وارتفاع متسارع في معدلات الفساد، حتى احتلت سوريا حينها المرتبة الثانية عالمياً، إلى جانب ارتفاع معدلات الجريمة. ولم يتمكن نظام الأسد آنذاك من إدارة الكارثة لا برؤية ولا ببرامج تنموية ولا حتى بتقديم الإحصاءات الدقيقة، فكان العجز مضاعفاً، بيئياً واجتماعياً وسياسياً.

اليوم، في ظل التحولات المناخية المتسارعة، فإن الأرقام لا تبشّر بالطمأنينة. تقارير أممية مثل منظمة الأغذية والزراعة تؤكد أن أكثر من 60% من الأراضي الزراعية السورية مهددة بدرجات متفاوتة من التصحر، وأن نسبة الهطول المطري لم تتجاوز 125 ملم هذا العام. والبنك الدولي حذّر في تقاريره من أن سوريا من بين الدول الخمس الأكثر هشاشة أمام تغيّر المناخ في منطقة الشرق الأوسط، حيث يتوقع أن يؤدي استمرار الجفاف إلى تقليص الناتج الزراعي بأكثر من 40% بحلول عام 2030 إذا لم يتم اتخاذ إجراءات عاجلة.

لهذا فإن ترتيب الأولويات في سوريا الجديدة يجب أن يبدأ من الريف. فالتنمية الريفية مشروع سياسي ووطني يضمن الاستقرار ويقي البلاد من موجات نزوح جديدة أو احتجاجات قد يتم استغلالها لتأجيج ثورة مضادة. فالريف القوي والمتماسك هو صمام أمان ضد تفكك المجتمع والدولة. ولهذا كله، فإن المشاريع الكبرى من زراعة وتعليم وسياحة يجب أن تتجه إلى الأرياف قبل المدن، لتثبيت السكان، وتحويل الريف إلى فضاء جاذب منتج للأعمال.

في هذا الإطار، يمكن لسوريا أن تستلهم من التجارب الدولية الناجحة. ففي ألمانيا مثلاً، تم تخصيص أكثر من 14 مليار يورو بين 2019 و2025 لبرامج التنمية الريفية، شملت دعم الزراعة المستدامة، تحسين شبكات النقل المحلية، وتوفير الإنترنت السريع للقرى النائية. أما النمسا، فقد جعلت التكيف مع الجفاف والتغير المناخي جزءاً من استراتيجيتها الوطنية منذ عام 2007، عبر برامج تدريب للفلاحين على استخدام أصناف مقاومة للجفاف، وإقامة مشاريع لجمع مياه الأمطار، وتطوير الطاقة المتجددة في القرى. هذه التجارب تظهر أن الاستثمار في الريف أساس لتحقيق استقرار سياسي واجتماعي واقتصادي طويل الأمد.

والسياسة هنا لا تنفصل عن الاقتصاد. فعندما يشعر أهل الريف أن الحكومة تستثمر في قراهم، وتؤهل المدارس، وتفتتح الكليات والمعاهد الزراعية والبيئية، وتنشئ المراكز الصحية والخدمات العامة، وتشق الطرق المناسبة لربطهم بالمدن، فضلاً عن إقامة مدن متخصصة بالصناعات الزراعية والإنتاج الحيواني لمواجهة موجات الجفاف، فإن شرعية الدولة تترسّخ وينخفض خطر الاستياء الشعبي. أما إذا استمر التهميش، فإن القرى قد تتحول إلى بؤر غضب، وتعود موجات الهجرة إلى المدن، بما يفاقم الضغط الاجتماعي والاقتصادي ويفتح الباب أمام فوضى جديدة. وفي هذا السياق، تشير مروى داوودي في كتابها: “أصول الصراع السوري: تغيّر المناخ والأمن الإنساني” الصادر عن جامعة كامبريدج عام 2020، إلى أن السياسات الحكومية في ظل حكم النظام البائد قد أسهمت في تهميش الفئات الريفية وإفقارها، إذ تم توجيه الاستثمارات نحو مراكز المدن على حساب الريف المنتج، وهو ما عمّق مشاعر الاستياء الشعبي وأضعف ثقة الريف بالدولة.

ومن هنا فقد اخترت عنوان مقالتي هذه: التنمية الريفية: الركيزة الاستراتيجية لاستقرار سوريا الجديدة يعني أن تكون القوانين والسياسات العامة موجهة بالدرجة الأولى نحو الأرياف وتكون في التنمية الريفية في مقدمة الأولويات. وهذا استثمار مضاعف؛ فهو يحقق الأمن الغذائي، يحافظ على البيئة، يخفف من الفقر، ويوفر فرص العمل، ويمنح البلاد حصانة سياسية ضد الاضطرابات.

وعليه يمكن القول إن مستقبل سوريا لن يكتب في مراكز المدن وحدها، بل في الريف إذا أعيد إحياؤه.