بعد صدورِ نتائج البكالوريا، عُدت إلى البيت مترنحة، الأفكار تأخذني وتعيدني، ماذا بعد...؟
كأنّ نجاحي أو رسوبي أمرٌ لا يعنيني، أكثر ما كان يعجبني أنّني حَصلتُ على العلامةِ الكاملة في مادة الرياضيات المالية، وقد كانت بالعموم مادة دسمة وصعبة.
دخلتُ إلى الصالون فوجدت أبي وأختي يتكلمان عن الدراسة، الجامعة وأهميتها لحياة الإنسان وخاصة البنات.
سألتني أختي عن أخبار نتيجتي، وكانت قد صدرت نتيجتها قبل نتيجتي بأيام، ولسوء الحظ، والتقدير آنذاك، لم يحالفها الحظ بالنجاح في البكالوريا، فأخبرتها بنجاحي، دون أي تعبير آخر.
تابعنا كلامنا بأحاديث روتينية، لبعد ظهر عادي، خرجت أختي من الغرفة.
قام والدي بسرعة، متوجهًا نحوي، في عيونه لمعان وكأنّه اللجين فوق نهر عذبٍ في ليلة مُقمرة، نكفَ الدمعَ عن خدهِ، وضمني ضمةً لم أشعر بطعمِ حلاوتها في حياتي من أي شخص بعده.
باركني واعتذر عن جُبنه، في أنّه لم يقل لي مبروك قبل قليل، فهو منفعل، والانفعال يُولِّد الأخطاء في التعبير، وهذا سيولد الأخطاء في الفهم، وهو لا يريد أن يؤذي مشاعر أختي.
في إحدى ليالي الصيف الساحرة، وعلى شرفة دارنا، كنا نشرب الشاي الذي يحبّ أن أصنعه له، نتسامر، نأكل بزر دوار الشّمس الذي تحبّه أمي، وأحبّه أيضًا، أحكي لهما قصصًا متناثرة من عملي، عن دهاء بعض العملاء وكشفي لهم، عن السيدة زوجة التاجر الغني كيف زارتني في العمل يومًا، وبدأت تتفاخر أمامي، بأنّهم يملكون هاتف جوال، وقد كان نادر الوجود في سورية آنذاك، وكيف أنّ لديهم في البيت مكرويف، وأيضًا هذا لم يكن موجود للعامة، ومكيف تبريد، و... و...
وأنا ابتسم في وجهها وفقط، دون أي إشعار مني بغيرة منها أو غبطة، أو انبهار بما تملك.
ولما بلغَ استياؤها مني مبلغه في عدم تجاوبي.
قالت لي بنبرة طفلٍ مُشاكس: لدينا في المنزل كلّ الأشياء باهظة الثمن، وغادرت.
كنت أحكي لوالدي بسعادة وفرح، وكان أبي يضحك بسعادة وإعجابٍ بمن ربى.
سمعته لاحقًا يقول لأمي: ابنتك ستكون امرأة مؤثرة.
ولكنّه كان جبانًا، فلم يقل لي ذلك.
في عشية أحد الأربعاءات كانت طرقات أمي سريعة على باب الحمام تستعجلني بألمٍ ألمَّ بأبي، وقد كان يُحضِّر نفسه للذهاب إلى دمشق، لإجراء عملية لقلبِه المريض، لم تكن تلك العمليات متوفرة إلا في العاصمة.
أثناء تجهيزه أموال العملية، وضعت في يده سلسالي الذهبي، لكنّه لم يرض أخذه، كان يخاف أن أبقى بلا سلسال ذهبي في رقبتي، أمام صديقاتي وأخواتي.
كان جبانًا، تركه بين أصابعي وابتعد عني يومها، يواري دمعه وضعف قلبه.
خرجت مسرعة أُمسك بيده إلى طبيبه المُعتاد، لما حكى أبي عن مكان ألمه، طلب منا الطبيب صورة إيكو غرافي بالسرعة القصوى، وفعلاً لم أتوانَ لحظة أخذت كتاب الطبيب، وأبي إلى المختبر.
لم يكن قلبه يومها من يؤلمه، فقد حاول أصحاب القلب المحبّ، من الطحال إلى المعدة إلى البنكرياس، وحتى الكولون التعاطف مع قلبه الكبير الممتلئ بالحبّ، حاولوا أن يتعلموا الحبّ من القلب فبدأوا بالنمو والانقسام دون رقابة أو تدبير، حتى بدأت الخلايا الجديدة تنتشر بشكل غير قانوني وتخترق الأنسجة بدل أن تداويها، فمرضوا جميعًا، وأصابهم السرطان القاتل.
أبي كان جبانًا، فضلّ القلب على سائر الأعضاء.
بعد خطبتي بأيام، سمعت أبي يقول لأمي، كيف سأعيش في هذا البيت بعد أن تغادره إيمان...؟
لكنّه كان جبانًا ومات قبل زواجي.
صديق، نبيلٌ يرافقني أغلب الأوقات صعوبة، مُحيط من حبّ، يأتيني في كلِّ مناماتي حيًا، قد توارى قليلاً عن الأنظار.
لكنّه في المنام أيضًا كان جبان، لم يضمني كتلك الضمة مرة أخرى.
كان جبانًا، تركني قبل أن أكتفي منه.
- إيمان أحمد مسلماني
كاتبة وإعلامية سورية