سوريا: نزيف الدماء والأدمغة

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية

سوريا عبر تاريخها لم تشهد هجرة، أو لجوء، أو نزوحا، كما شهدت، وتشهد تحت حكم "الجملكيةّ الأسدية"، فالأرقام شواهد. تركيا الخزان الأكبر للجوء السوري وصل فيها عددهم إلى ما يقرب أربعة ملايين لاجئ، وهذا العدد يساوي تقريبا عدد سكان سوريا في خمسينيات القرن الماضي. يقدر عدد اللاجئين السوريين في العالم منذ بداية الثورة بحدود ثمانية ملايين لاجئ، وهذا الكم يساوي عدد سكان سوريا في ثمانينيات القرن الماضي. وإذا أضفنا عدد القتلى، والمعتقلين المفقودين، والمهاجرين الطوعيين (ومعظمهم من أصحاب الكفاءات) الذين هجروا بسبب البطالة، وانخفاض المخصصات نصل إلى لا يقل عن تسعة ملايين باتوا خارج التراب السوري.

يبدو هذا الرقم مريحا لرئيس النظام السوري بشار الأسد الذي يرى فيه "أن الشعب السوري أصبح أكثر تجانسا". أو بمفهوم آخر أن مكونات الشعب السوري قليلة العدد ترى نفسها اليوم "أقل أقلية" كالطائفة العلوية التي ينتمي إليها. لكن نظرية التجانس هذه التي جاءت على حساب ملايين اللاجئين والنازحين والمهجرين، وقتلى المعارك، وأقبية التعذيب، التي يرى فيها رئيس النظام الجانب "التجانسي" يغفل جانب الخسارة الكبيرة في العقول السورية التي فرت من سوريا بحثا عن مكان آمن يضمنون فيه حياتهم ويمارسون فيه خبراتهم العلمية والعملية بعيدا عن القصف اليومي بالبراميل المتفجرة، وبالأسلحة الكيميائية، وعن خطورة الوقوع في معتقل من المعتقلات والنهاية المحتومة. عرفت سوريا أول هجرة للسوريين مع نهاية القرن التاسع عشر جراء المجاعة التي ضربت المنطقة بأكملها، فهاجر عشرات الآلاف إلى أمريكا وكندا وبعض دول أمريكا اللاتينية. وهذه الهجرة شكلت جاليات سورية في أكثر من بلد في القارة الأمريكية واستطاعت تحقيق نجاحات كبيرة في التجارة والمال والسياسة والفن. الهجرة بدأت من جديد في ستينيات القرن الماضي، وكانت هجرة عمالة ذات خبرات متعددة اتجهت بشكل رئيسي نحو دول الخليج وليبيا نظرا لفشل سياسة النظام الاقتصادية وتفشي البطالة، وهجرة رؤوس أموال بعد سياسة التأميم التي انتهجها حزب البعث الحاكم والتي حرمت سوريا من رؤوس أموال كانت تدعم الاقتصاد السوري وخاصة في مجال الاستثمار والتصنيع. لكنها تكثفت بشكل متسارع ومتعاظم مع بداية سبعينيات القرن الماضي، أي بعد انقلاب حافظ الأسد وبدء المرحلة الأسدية لحكم سوريا، وهذه المرة ليست على مستوى العمالة فقط ورؤوس الأموال، ولكن على مستويات أخرى تشمل الأدمغة والخبرات العالية التكوين من أطباء، ومهندسين، وأساتذة جامعيين، وصحفيين، وشعراء، وكتاب.

في تقرير لدائرة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية التابعة لقسم السكان في الأمم المتحدة يشير إلى أن عدد المهاجرين السوريين قبل الثورة وصل إلى حوالي مليونين ومئتي ألف مهاجر، أي ما يقارب عشر السكان.

في سنة 2000 وصل عدد الأطباء السوريين المهاجرين إلى أمريكا أكثر من 6000 طبيب، وبلغ عدد الأطباء السوريين في ألمانيا إلى 18000 طبيب. وتشير نقابة الأطباء في سوريا إلى أن ثلث الأطباء السوريين قد اختاروا الهجرة إلى أوروبا بشكل خاص، إذ يشير نقيب الأطباء في سوريا إلى لجوء أكثر من 7000 طبيب إلى أوروبا وأمريكا. وتضم فرنسا آلاف الأطباء السوريين الذين رحبت بهم فرنسا وشكرتهم على جهودهم في مواجهة جائحة كورونا إذ يقفون في الصفوف الأمامية في المرافق الطبية الفرنسية وكذلك الأمر بالنسبة للصيادلة، والمهندسين. وتعتبر سوريا أول دولة من بين الدول العربية في نسبة هجرة الأدمغة.

هذا النزيف الهائل للخبرات العلمية السورية هو سياسة ممنهجة لإفراغ البلد من طاقاته، وخسارة فادحة لكوادر الدولة التي ستحتاج إلى مبلغ لا يقل عن 40 مليار دولار لإعادة تأهيل الكوادر المفقودة. المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس قرر إخراج سوريا من مؤشر جودة التعليم. وحسب تقرير لليونيسكو فإن سوريا تعتبر من الدول المهمشة علميا. خاصة وأن جيلا كاملا من الأطفال السوريين بات عدد كبير منهم دون تعليم خاصة في مخيمات النزوح واللجوء. حسب التقرير فإن سوريا في المرتبة 140/142 في مؤشر توفر الخدمات التدريبية المخصصة ذات الجودة العالية، ويؤكد أن النظام التعليمي في سوريا لم يسع بجدية لخفض نسبة الأمية، ونشر التعليم وتوفيره لقطاعات واسعة.