د. مخلص الصيادي
لا شك أن القصف الإيراني للكيان الصهيوني كان بحد ذاته حدثا مهما، وأن هذا الحدث بطبيعته سيكون حاكما لمستقبل العلاقة بين الطرفين على المدى المنظور.
وينتمي هذا الحدث الى الصنف نفسه الذي ينتمي إليه حدث قيام طائرات العدو الإسرائيلي بقصف القنصلية الإيرانية في دمشق موقعة خسائر فادحة في الأرواح وفي الكرامة للجانب الإيراني.
وإذا كان الهجوم الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية جاء خارج السياق الذي ارتضته الأطراف المختلفة المتشابكة على الأرض السورية، وأظله الجانبان الدوليان روسيا والولايات المتحدة، وبدا كأنه عدوان سيقلب الموازين والتفاهمات، فإن رد الفعل الإيراني على ذلك الهجوم جاء محسوبا بدقة، بالتوقيت، وبحجم الخسائر، وبطبيعته التحريضية.
كان القصف الإسرائيلي للقنصلية الإيرانية مؤلما جدا، والخسائر فيه فادحة جدا، والمعاني التي تضمنها قاسية جدا، إذ القنصلية في العرف الدولي والدبلوماسي “أرض إيرانية” ضمن السيادة السورية، وإذا كان انتهاك الإسرائيليين للسيادة السورية بات بحكم طبيعة النظام السوري وتفككه عاديا، إذ ما عادت قوة من القوى الأجنبية العاملة على الأرض السورية تحسب حسابا لهذه السيادة التي تمثلها سلطات الأسد، فإن الأمر يختلف بالنسبة للمقرات والمنشآت الدبلوماسية.
لكن الرد الإيراني لم يكن كذلك، لم يكن مؤلما، ولم يكن قاسيا، ولم يوقع خسائر بشرية، بل إن هذا الرد راعى ما هو أكثر من ذلك، فقد نبه وبشكل رسمي كل الأطراف بما فيها الطرف الإسرائيلي أنه بصدد القيام بعملية قصف لأهداف داخل الكيان الإسرائيلي، وأن هذا القصف لا يستهدف إيقاع خسائر بشرية أو مادية، وإنما إظهار قدرة إيران على الوصول إلى عمق الكيان الصهيوني. وفي الوقت نفسه إظهار عدم رغبة إيران في التصعيد أو في تغيير قواعد الاشتباك السابقة التي خرقها الهجوم الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية. وقد أكد رد الفعل الإسرائيلي التالي على الهجوم الإيراني بأن إسرائيل فهمت الرسالة الإيرانية، وأنها لا تسعى إلى التصعيد، وأنها تكتفي بتنفيذ هجمات غامضة استهدفت أصفهان على تخوم النووي الايراني ترد فيها الاعتبار لنفسها.
وبعيدا عن الصخب الصادر عن أنصار النظام الإيراني عقب الهجوم الإيراني على أهداف داخل الكيان الصهيوني، وبعيدا عن الاستهانة التي قابل بها خصوم النظام الإيراني ـ في المحيط العربي وخارجه ـ هذا الهجوم ووصفهم له بأنه هجوم متفق عليه” أي هجوم مسرحي”، وأنه لا قيمة له. بعيدا عن هذا وذاك لابد لنا من النظر موضوعيا إلى مجمل الحدث، “الأفعال وردود الأفعال”، ولعل وضع رؤيتنا في نقاط محددة مما يساعد على تبين الجوانب الموضوعية في الحدث كله:
1ـ الهجوم الإيراني على الكيان الصهيوني ليل 14 / 15 هجوم واسع انطلق من ايران بمدى يصل إلى 200 كيلو متر على الأقل، استخدمت فيه 300 طائرة مسيرة وصاروخ باليستي هو على الأرجح من طراز شهاب 2ـ3 ، لكن هذا الهجوم لم يأت مفاجئا، وإنما تم الإبلاغ عنه من قبل ايران للأطراف كلها، قبل وقوعه وأثناء وقوعه، كما تم الإبلاغ عن مساره، وهدفه، وعن زمن وصوله، وسخيف جدا القول إن الإبلاغ تم بهدف الحفاظ على سلامة النقل الجوي المدني.
2ـ لقد تم أسقاط معظم هذه الطائرات المسيرة والصواريخ قبل وصولها إلى أهدافها لكن القليل جدا منها وصل فعلا. وهذا يشكل تحديا حقيقيا لفكرة أمن الكيان رغم أن هذا الهجوم الواسع لم يوقع أي إصابة فعلية في الأفراد أو المنشآت، وبالتالي فإنه لم يوقع خسارة فعلية في الجانب الإسرائيلي.
3ـ في التصدي للهجوم الإيراني شاركت قوات أمريكية وبريطانية وفرنسية في مواجهة هذا الهجوم الذي بلغوا عنه مسبقا، وكان دور القوات الأمريكية في شرق سوريا وفي جنوب سوريا. والحديث هنا عن مشاركة أطراف عربية مثل الأردن في المشاركة بالتصدي للهجوم الإيراني حديث غير مهم في مسار هذا الصراع، ولا يقدم جديدا، لأن الأردن شأنه شأن الدول العربية التي وقعت معاهدات صلح، أو تشاركت في الاتفاقات الابراهيمية قد خرجت جميعا من دائرة الصراع مع هذا الكيان، ومفهومه، ومضت كلها في مسار التعاون الأمني والاقتصادي والسياسي مع الكيان الصهيوني، ويأتي تصديها للطائرات والصواريخ العابرة لأجوائها مستهدفة الكيان مجرد تفصيل تستوجبه تلك الاتفاقات، خصوصا وأن إيران أبلغت الجميع وبالتفصيل بما ستقوم به، كما أعلن الأردن في حينه أنه سيتصدى لذلك الهجوم في أجوائه.
4ـ الهجوم الإيراني لم يستخدم، ولم يمر فوق الأراضي اللبنانية أو السورية، وإنما اتخذ مساره فوق الأراضي العراقية ومن ثم الأردنية، وكان من الأولى أن يكون الفضاء السوري ممرا للهجوم الإيراني باعتبار أن إسرائيل انتهكت السيادة السورية بهجومها على القنصلية الإيرانية في دمشق، لكن ذلك لم يحدث، وكذلك كان أولى أن تتخذ القذائف والطائرات مسارها فوق الأرض اللبنانية مستندة على وجود حزب الله ونظرية وحدة الساحات، لكن ذلك لم يحدث أيضا.
5ـ المشاركة الغربية في التصدي للهجوم الإيراني استعاد بشكل ما صور “التقاطر الغربي” لحماية الكيان عقب عملية “طوفان الأقصى”، وهي صورة تؤكد حقيقة أن الكيان الصهيوني بكل ما توفر له من تسليح وتكنولوجيا وإمكانات، كان وما زال عاجزا عن الدفاع عن نفسه، وهو بحاجة دائمة للحماية الغربية، أي أن الكيان الصهيوني “مشروع ووليد غربي” لا يستطيع أن يعيش ويقوم دون كفالة الغرب الاستعماري وحمايته، وهذه الحقيقة هي عكس ما يريد قادة الكيان تصويره وتصديره.
6ـ أما الرد الإسرائيلي على الهجوم الإيراني فقد وصل إلى تخوم “المشروع النووي” في أصفهان، وهذا الرد يحمل دلالات أخطر من دلالات الهجوم الذي نفذته ايران، لكنه يبقى في الإطار المنضبط الذي يقول: نستطيع أن نصل إلى أهدافنا، لكننا لا نريد أكثر مما حققنا. أي أنه هجوم محسوب، وقد تم إخطار الولايات المتحدة والعواصم الغربية المعنية به، وبطبيعته، وبحدوده.
7ـ إن المحصلة العامة للمشهد كله، للقصف الإسرائيلي الأول الذي استهدف القنصلية الايرانية، وللقصف الإيراني للكيان، وللقصف الإسرائيلي لأهداف في ايران، هذه المحصلة لا تستند الى المعركة أو الصراع الجاري بين المقاومة الفلسطينية وحركات الجهاد ، وبين قوات العدو الصهيوني في غزة، ولا تأتي انتصارا لفلسطين، وبالتالي لا يصح النظر إليها من هذه الزاوية، المسألة كلها “تنافس حاد” على الدور في المنطقة، وليس صراعا إيرانيا ضد الكيان أو العدو الصهيوني، ليس صراعا من أجل فلسطين، أو لدعم المجاهدين في غزة، أو للتخفيف من عنف الهجوم البربري الإسرائيلي الراهن على غزة.
8ـ وحتى من قبيل التداعيات الجانبية لهذا الصراع التنافسي فإن دخول ايران على الخط من هذه الزاوية قد أخذ من مكاسب المجاهدين ولم يضف لها شيئا، وساهم في تشتيت الانتباه والأضواء التي كانت مسلطة على جرائم العدو الصهيوني في حربه على غزة، وأعاد تأكيد التفاف الغرب حول الكيان بعد أن بدأ هذا الالتفاف بالتفسخ حتى على مستوى النخب السياسية فيه.
9ـ وعلى المستوى الإيراني فإن هذا الصراع التنافسي الراهن على المنطقة قد يكون مناسبة لإيران للخروج من مرحلة الدولة على “عتبة النووي” إلى “الدولة النووية”، وعلى التخلص من منطقها النووي السابق القائل بأنها لا تستهدف تملك هذا السلاح. وقد تضع إيران الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي السداسي في 8 / 5 / 2018 زمن الرئيس دونالد ترامب، إلى جانب وصول إسرائيل في عملياتها الليل الفائت ـ كما ذكرت الأنباء ـ إلى محيط إيران النووي في أصفهان، سببا وذريعة لانتقالها الى مرحلة الدولة النووية، بقيامها بإنتاج القنبلة النووية، خصوصا وأن نظام العقوبات الذي أحاط بإيران خلال السنوات الماضية أثبت عجزه عن كبح جماح توجهها لاستكمال برنامجها النووي.
10ـ هذا الصراع التنافسي بين إيران والكيان الصهيوني يسجل هذه الأيام، ومن خلال هذه التطورات، وما تستدعيه، أفقَ هذا التنافس ومجاله، وواضح أن الطرفين متفقان على أن يكون العرب: جغرافيا، وسياسيا، وديموغرافيا، وثروات هم موضع التنافس بين المشروعين “الإيراني والصهيوني”، وعند هذا الحد يكون المطلوب توزيع الأدوار، وأن يرضى كل جانب بدوره بقدر ما تتيح له قوته وتحالفاته، وحتى الآن فإن كل المؤشرات تدل على أن الولايات المتحدة، والتحالف الغربي، والصهيونية العالمية، الجميع على توافق وقبول بهذا الدور الإيراني، وبهذه الحدود، حتى ولو ظهر متطرفون صهاينة يريدون التشويش على هذه النظرة أو الاخلال بموجباتها. وفي هذا الإطار يصبح الملف الفلسطيني كله، “تفصيل” في عموم الخارطة التي يتم التعامل فيها، وليست قضية رئيسية تحكم العلاقات والتحالفات، وقد لا يفضل هذا التفصيل الخاص بفلسطين مكانة سوريا، أو العراق في التصور الإيراني، أي في المشروع الإيراني العام.
11ـ ويبقى تساؤل أخير في هذه الاطلالة على الصراع التنافسي الإيراني الإسرائيلي، وهو هل هذا الصراع التنافسي منضبط؟، أي أن كل طرف قابل، ومكتف بدوره، ومجاله، ومكاسبه؟
بحكم الطبيعة الإمبراطورية لكلا المشروعين فإن كل طرف يسعى لزيادة نصيبه من “موضع أو كعكة التنافس”، لكن انضباط الجانبين يعني فيما يعني قدرة الأطراف الأخرى الراعية على جعل هذا الصراع لا يتجاوز حدا معينا، والذي يمعن النظر في طبيعة المشروعين الإيراني والصهيوني، وفي طبيعة القيادتين الإيرانية والإسرائيلية لن يتعبه أن يدرك أن هذا الصراع قد يفلت من عقاله، وسيكون هذا حينما يتطلع أحد الطرفين إلى الحصول على ما يعتبره الطرف الآخر من صميم حصته.
ويجب أن نعترف أن القيادة الإيرانية التي تجسد المشروع “الفارسي / الشيعي” وتقوده، قد أظهرت حتى الآن حنكة، وضبط نفس، وقدرة على التحكم بعناصر القوة والفعل لديها، والتحكم بأدواتها وحلفائها، بحيث يسجل تقدم الزمن تقدما تدريجيا لمشروعها، وبقدر ما تعود هذه الصفات لطبيعة القيادة الإيرانية الراهنة، فإنها تعود كذلك لطبيعة المشروع الإيراني، واستهدافات نظرية “ولاية الفقيه” الذي يستند اليها هذا المشروع، في مقابل ذلك أظهرت القيادة الإسرائيلية تطرفا وتفردا واستفزازا لحلفائها، ولكثير من مكونات مجتمعها، ما جعلها تخسر من رصيد المشروع الصهيوني الذي تقود وتجسد كيانه السياسي والاجتماعي، تخسر من دعم الرأي العام العالمي، وتخسر من الدول المؤيدة لها أو الساكتة على جرائمها، وتخسر من التفاف مجتمع الكيان الصهيوني حولها، لذلك فإن إمكانية تفلت هذا “الصراع التنافسي” وخروجه عن إطاره المنضبط أمر ممكن الحدوث، ولعل الجهد الأمريكي والغربي، وجهد الحركة الصهيونية العالمية يتكثف في هذه المرحلة حتى لا يحدث ذلك.
المصدر : ملتقى العروبيين