(عن القدس العربي)
من عايش القضية الفلسطينية من جيل النكبة يصعب عليه جدا ما يشاهده اليوم من ظلم فادح فاضح في جريمة القرن الواحد والعشرين الكبرى في غزة التي بكل المقاييس نكبة جديدة لشعب مستهدف منذ خمس وسبعين سنة لمحوه من الخريطة أرضا وشعبا.
ويصعب عليه صمت الأنظمة العربية على جرائم دولة الاحتلال منذ أكثر من مئة يوم وكأنهم يشاركون في الجريمة، أو أن هذه الجرائم ترتكب في شعب لا يمت للعرب بصلة، وكأن الشعوب العربية قاطبة لم تدفع دما ودموعا وأموالا من أجل فلسطين.
فالشعوب العربية التي تقف موقفا واحدا واضحا في تأييد ودعم الكفاح الفلسطيني دون تراجع ولا مواربة، ومستعدة لتقديم كل أشكال الدعم بما فيها الانخراط في الكفاح إلى جانب الأخوة الفلسطينيين، وترفض التطبيع مع دولة الاحتلال، هي في واد، والأنظمة العربية في واد آخر عميق سحيق. مع أن تاريخ العلاقة بين هذه الأنظمة وفصائل المقاومة الفلسطينية كانت تعطي الانطباع أن هذه الأنظمة تحرص على تحرير فلسطين أكثر من الفلسطينيين أنفسهم، خاصة وأن هذه الأنظمة كانت تزاود على الفلسطينيين أنفسهم، وتحتضن كل دولة فصيلا أو فصيلين فلسطينيين، وتستمد شرعية أنظمتها منها.
فماذا تبدل في الذين كانوا يدعون أنهم أكثر ملكية من الملك؟
بداية المقاومة
منذ البدء كانت المقاومة في فلسطين بعد الحرب العالمية الأولى ووعد بلفور المشؤوم شعبية بامتياز شارك فيها الكثير من العرب إلى جانب الفلسطينيين، وثورة 1936 كانت بقيادة السوري عز الدين القسام وشارك فيها فوزي القاوقجي الذي أصبح فيما بعد قائد جيش الإنقاذ في العام 1947 بعد قرار من الجامعة العربية الحديثة الإنشاء. لكن المقاومة الشعبية انتهت مع تعهد الجيوش العربية بالتحرير، لكنها سقطت في أول اختبار لها في حرب نكبة 1948.
هذه الهزيمة التي من مفرزاتها المتعددة طرد حوالي مليون فلسطيني من أراضيهم إلى الدول العربية المجاورة والانقلابات العسكرية، والخلافات البينية بين أنظمة الديكتاتوريات العسكرية، والأنظمة الملكية والأميرية، أو (قومجيون، ورجعيون) ولا يجمع بينها (صوريا) سوى جامعة عربية تحتضن الخلافات التي لا نهاية لها في كل الشؤون عدا الاتفاق في كل البيانات الصادرة عن مؤتمرات القمة نفاقا وتزييفا على مواجهة دولة الاحتلال، وتسخير كل الإمكانيات لتحرير فلسطين.
التهديد الإسرائيلي لمصر
لم يكن قد مضى على نكبة العرب سوى ثماني سنوات حتى فجر الرئيس المصري جمال عبد الناصر في العام 1956 تأميم قناة السويس، قرار التأميم كان سببا في اندلاع حرب السويس الثلاثية على مصر.
وهنا لابد من وقفة على مشاركة إسرائيل في هذه الحرب. ما الذي دفع دولة الاحتلال الناشئة حديثا للمشاركة في هذه الحرب مع أنها لم تكن مهددة وليس لها في هذا الشأن من المفترض لا ناقة ولا جمل، ولماذا قبلت الدولتان العظميان بريطانيا وفرنسا مشاركتها في هذه الحرب ضد مصر؟
الجواب على هذا السؤال هو أن الدولة الصهيونية التي تدين لبريطانيا بإنشائها أرادت من ناحية أن تظهر أنها الشريك الغربي في الشرق الأوسط من ناحية، واحتلال سيناء من ناحية أخرى والوصول إلى قناة السويس لتكون شريكة للدولتين بعد الانتصار.
وهذا يعني أن هذه الدولة كانت تضمر استراتيجيتها في التوسع الجغرافي منذ البداية على حساب الأراضي العربية، وأراد الغرب أن يظهر أيضا أن إسرائيل هي الحليفة الأولى له في المنطقة.
الأمور كانت واضحة تماما بأن هذه الدولة لا تهدد فلسطين فقط بل تهدد العالم العربي بأكمله والأحداث اللاحقة أكدت ذلك.
منظمة التحرير الفلسطينية
في القمة العربية المنعقدة 1964 تم الاتفاق على إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية وأقر المؤتمر الوطني الفلسطيني “الميثاق القومي الفلسطيني” الذي يؤكد على تحرير فلسطين بالكفاح المسلح.
وهذا القرار للجامعة العربية كان الأول منذ النكبة بتشكيل هيئة سياسية عسكرية فلسطينية، لكنها وبعد نكسة 67 وهزيمة العرب لم تعد القضية تنحصر بفلسطين، بل أن هذه الحرب أوضحت مرة أخرى أن دولة الاحتلال تستهدف الدول العربية أيضا وهدفها توسعي خارج حدود فلسطين، فهي التي بدأت العدوان كما في حرب السويس، وعادت لاحتلال سيناء مرة أخرى، والجولان، وجميع الأراضي الفلسطينية في الضفة وغزة.
وهذا انعكس على وضع منظمة التحرير ففي 1968 تم تبني “الميثاق الوطني” بدلا عن “الميثاق القومي”، والذي ينص على أن “منظمة التحرير هي الإطار الممثل لقوى الثورة الفلسطينية المسلحة من أجل استرداد وطنه وتحريره، وممارسة حق تقرير المصير فيه”، لكن المنظمة قبل أن تصطدم بدولة الاحتلال اصطدمت بالأنظمة العربية في الأردن، ولبنان، وسوريا.
وجاءت حرب تشرين الأول/أكتوبر التي لم يكن مخططا لها لتحرير فلسطين ولكن لتحرير الأراضي المحتلة في سيناء والجولان.
كما طرأ على منظمة التحرير أول تحول نحو إسرائيل بتبني “إقامة سلطة الشعب الوطنية المستقلة المقاتلة فوق الأراضي الفلسطينية التي سيندحر عنها الاحتلال” وهي خطوة اعتبرت كشبه اعتراف بإسرائيل، وقامت مصر في 1978 بأول عملية تطبيع مع تل أبيب لاسترداد سيناء، والتي كانت نقطة تحول كبرى في مواقف بعض الأنظمة العربية التي اتجهت تدريجيا نحو اتخاذ الخطوة ذاتها، واتفق العرب على الاعتراف دفعة واحدة مقابل استرداد الأراضي المحتلة وإنشاء دولة فلسطين في مبادرة العاهل السعودي الملك عبد الله، فجاء الرفض مباشرة من دولة الاحتلال، فهي كانت تبحث عن عمليات تطبيع منفردة لمصالح بينية دون مقابل لصالح الشعب الفلسطيني.
ورغم أن منظمة التحرير وافقت على التطبيع في اتفاق أوسلو فقد اتضح أيضا بعد ثلاثة عقود أنه كان حبرا على ورق، فالجيش الإسرائيلي عاد ليحتل الضفة الغربية ويقتل شبابها، ويدمر غزة بعد حصارها لعقدين من الزمن فتحولت إلى سجن مفتوح بحجم القطاع، وسار قطار التطبيع سريعا مع اتفاقيات أبراهام التي لم تتطرق مطلقا لدولة فلسطينية، واتضح مع حكومة بنيامين نتنياهو المتطرفة أنها بنية ضم الضفة الغربية وحتى غزة بعد تهجير سكانها، بعد أن غذت التفرقة بين السلطة الفلسطينية، وفصائل المقاومة في غزة.
(وكانت حماس قد رفضت الانضمام إلى منظمة التحرير بشروطها الأربعة: الموافقة على الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود 67، الالتزام منظمة التحرير كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، والتقيد بالتزامات المنظمة المختلفة، والالتزام بالشرعية الدولية).
انعكاسات الربيع العربي
من انعكاسات الربيع المختلفة أن الثورة المضادة التي قادتها بعض الأنظمة ضد أي تغيير سياسي حقيقي في دول الشعوب المنتفضة كانت تخشى من عاملين إثنين:
أولا: انتشار أنظمة تسيطر عليها حركات الإخوان المسلمين والتي بمجملها ضد التطبيع، ومؤيدة لحقوق الشعب الفلسطيني عبر انتخابات ديمقراطية كما حصل في مصر وتونس، أو بقوة السلاح كما حصل في ليبيا وسوريا واليمن.
ثانيا: التغلغل الإيراني وسيطرته على بعض دول المنطقة (العراق، سوريا، لبنان، اليمن). فكانت عملية التطبيع مع دولة الاحتلال الحل الوحيد لدفع أمريكا للحماية، (في دول الخليج)، أو للدعم المالي والاقتصادي (مصر، والسودان)، أو لمصالح مشتركة (المغرب) في الاعتراف المتبادل بإسرائيل، مقابل الاعتراف بالصحراء الغربية.
مع اندلاع أحداث غزة وعملية “طوفان الأقصى” فإن الدول المعادية للحركات الإسلامية (بما فيها النظام السوري رغم تطبيع حماس علاقاتها معه) ورغم تصريحات العديد من الإسرائيليين نيتهم في احتلال أراضي عربية وآخرهم الكاتب دينيس أفى ليبكين الذي يصرح في كتاب له أن إسرائيل ستحتل مكة والمدينة، لم تحرك ساكنا، والدول الحريصة على مصالحها مع إسرائيل، وأمريكا اتخذت الموقف نفسه.
لم يتبق على أرض الواقع سوى الدول التي تحتضن حركات إسلامية مدعومة من إيران (الحشد الشعبي في العراق، حزب الله في لبنان، أنصار الله في اليمن، حماس، الجهاد الإسلامي) وهذا ما يضع إيران في موقع متقدم على الدول العربية في هذه القضية التي تركت الفلسطينيين وحدهم في الميدان.
عملية طوفان الأقصى أعادت القضية الفلسطينية إلى مربعها الأول، وعادت الولايات المتحدة على لسان وزير خارجيتها أنتوني بلينكن للحديث عن دولة فلسطينية بعد أن كانت طي النسيان، وجاء طلب جنوب افريقيا لمحاكمة إسرائيل بجرائم ضد الإنسانية لتدين دولة الاحتلال مهما كان حكم المحكمة.
يتبقى فقط معرفة موقع حماس والجهاد بعد نهاية الحرب، وهل سيعمل الفلسطينيون بكامل فصائلهم على التوحد في هيئة حكومة إنقاذ وطني وتحقيق حلم الدولة رغم تخلي الأنظمة العربية عنهم ؟
كاتب سوري