أبرز محطات الدور الفرنسي في سوريا.. ماذا تريد باريس؟

الدور الفرنسي  الجديد في الشرق الاوسط
الدور الفرنسي الجديد في الشرق الاوسط

استضافت العاصمة العراقية بغداد، يوم السبت الفائت، قمة دول جوار العراق أو مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة، ولعل من السمات البارزة في الحدث الأول من نوعه منذ سنوات والذي جمع عدة دول إقليمية ضمن إطار مؤتمر اهتمت به وقامت بدعم انعقاده دولة أوروبية كبرى مثل فرنسا، كانت السمة الأبرز فيه هو حضور الملف السوري لما يملك من تأثير مباشر على الدول المشاركة في المؤتمر، دون وجود أي تمثيل سوري، كون النظام السوري يعيش في عزلة سياسية، تجلت بإصرار فرنسا على عدم دعوة الأسد للمؤتمر أو حضور أي شخصية سياسية رئيسية في نظامه.

وكشفت مصادر إعلامية منتصف شهر أغسطس، عن علاقة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعدم دعوة العراق، رئيس النظام السوري، بشار الأسد لمؤتمر قمة دول جوار العراق، حيث نقل موقع قناة "روسيا اليوم" عن مسؤول عراقي أن "المؤتمر جاء بفكرة عراقية فرنسية، وسيحضره الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي يدفع باتجاه أن تحضر قيادات الدول إلى بغداد".

وأضاف أن "أحد شروط ماكرون لإنجاح المؤتمر كان عدم دعوة رئيس النظام بشار الأسد إلى بغداد، فهو يرفض الجلوس معه"، مشيراً إلى أن "الحكومة العراقية اتفقت مع ماكرون في رأيه لعدم إحراج بقية القادة".

في هذا المقام يتجلى تساؤل لا بد من طرحه حول محددات الدور الفرنسي في سوريا، لا سيما وأن باريس تلعب دوراً متطوراً في الملف السوري خلال الفترة الأخيرة، وقد تكون الدوافع عديدة منها ما يتعلق بمسألة مكافحة الإرهاب وما يتصل بها بمصير معتقلي داعش وعوائلهم في سوريا، وحتى ملف اللاجئين السوريين في فرنسا وأوروبا عموماً، وصولاً إلى مسألة إعادة الإعمار وارتباطها بنجاح تنفيذ بنود العملية السياسية في سوريا، واتصال كل ذلك بالعلاقات الفرنسية الروسية في المنطقة وتأثرها وتأثيرها على المشهد السوري.

منتصف مارس الماضي أصدرت دول أوروبية من بينها فرنسا إلى جانب الولايات المتحدة، بياناً مشترك أكدت مواقفها تجاه العملية السياسية في سوريا وواقع الحال هناك، مطالبة الالتزام بمخرجات القرار الدولي 2254.

الدول المُصدِرة للبيان هي ما تبقى من ما كان يسمى "مجموعة دول أصدقاء سوريا" ولاحقاً باتوا في "المجموعة المصغرة حول سوريا"، إضافة إلى بعض دول عربية.

البيان الذي صدر وما يحمله من نقاط عدة حول توصيف المشهد الحالي في الملف السوري يتفق تماماً مع الرؤية الفرنسية تجاه سوريا لا سيما في عهد الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون، و إن كانت فرنسا قبل عهد ماكرون قد تراجعت بشكل ملحوظ في فعاليتها ضمن نطاق السياسة الخارجية.

تبدو السياسة الفرنسية في سوريا تقوم على مرتكزات بارزة، تتجلى في مكافحة الإرهاب ومنع وصول خطره إلى فرنسا/أوروبا، وضمان استمرار وصول المساعدات الإنسانية إلى سوريا دون تسييسها، ومنع أي استخدام للأسلحة الكيميائية أو تصنيعها في/عبر سوريا، وكذلك دعم الاستقرار القائم على المفاوضات السورية-السورية برعاية أممية، دون الاهتمام بمصير الرئيس السوري أو السلطة الحالية في سوريا.

تطور مرحلي

لعل الحضور الفرنسي في الملف السوري ينطلق من عاملين، أولهما رغبة باريس في المحافظة على الوجود الأوروبي ضمن الملفات الطارئة على قائمة الأمن الدولي، وثانيهما سعي الفرنسيين لإعادة تقوية حضورهم في السياسة العالمية بعد خفوت في حجم دورها وتحركاتها في دول منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا، ولعل أزمات دول مثل سوريا وغيرها، كانت بوابة مناسبة لتجديد الحضور الفرنسي، وفي الوقت ذاته فإنه وبالرغم من التماهي الفرنسي مع الدور الأميركي في سوريا خلال مراحل عدة، إلا أنه لم يصل إلى حد الذوبان فيه، بل أن باريس حاولت في فترة قريبة سابقة الابتعاد عنه.

في ظل تنافس أميركي روسي داخل الملف السوري ودول عربية مأزومة أخرى سُجل فيها حضور أوروبي، بمقابل تراجع دور فرنسي في منطقة الشرق الأوسط وصولا إلى الساحل الإفريقي. كان لا بد على باريس من رفع مستوى نشاط سياساتها الخارجية لمجاراة الرهان الحاصل بين الدول الكبرى على المواقع الإستراتيجية في المنطقة.

سعت الدبلوماسية الفرنسية إلى استعادة مكانتها خلال فترة الرئيسين نيكولا ساركوزي، وفرانسوا هولاند. إلا أنها لم تحظى بعودة قوية، رغم مشاركتها بالتحالف الدولي لمحاربة تنظيم "داعش"، إلا أن الفعالية الحقيقية لم تكن حاضرة بشكل رئيسي سوى لمتزعم التحالف، الولايات المتحدة. وفي جانب آخر فقد سعت فرنسا إلى أن تكون أول دولة تعترف بالمعارضة السورية في مرحلة الرئيس فرانسوا هولاند (آب 2012) للإعلان عن حضورها في ملفات منطقة الشرق الأوسط، إلا أن ذلك حصل بعد اتهام هولاند بالتردد في مقاربته للملف السوري من قبل اليمين الفرنسي، غير أن باريس لم تكن فاعلة لأكثر من هذا المستوى وكانت المعارضة السورية في قسم كبير منها يدور في الفلك الأميركي، بينما اكتفت فرنسا في التحالف الدولي لمحاربة "داعش" لاحقاً، و الانضواء ضمن الرؤية الأميركية خلال جولات مؤتمر "أصدقاء سوريا" أو الدعم السياسي للجهود الأممية في جولات مسار جنيف.

ثلاث محطات خلال سنتين فقط، توضح المتغيرات التي طرأت على الرؤية الفرنسية في سوريا، كان أولها احتلال تنظيم داعش الإرهابي (يونيو 2014) مساحات شاسعة في العراق وسوريا معلنًا قيام ما أسماها "دولة الخلافة"، و هوما أسس لتأجيل النقاش حول رأس النظام السوري، قبل أن يلغيه.

و في صيف 2015 بدأت أزمة اللاجئين، عندما تدفق مئات آلاف المهاجرين إلى أوروبا، وفي منتصف نوفمبر من العام ذاته، ضربت فرنسا أعنف اعتداءات إرهابية في تاريخها.

عند وصول الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون إلى سدة الرئاسة (أيار 2017)، اندفعت باريس إلى مرحلة جديدة في سياستها الخارجية، لا سيما في سوريا، إضافة إلى المنافسة في أماكن أخرى والعمل على ترميم علاقاتها المتصدعة مع الأطراف الفاعلة في مختلف الملفات، حتى وصل الأمر إلى الانفتاح على الجانب الروسي في الملف السوري.

تقارب ماكرون مع بوتين خلال السنوات القليلة الماضية، جاء في وقت شهدت فيه العلاقات التركية-الفرنسية توتراً غير مسبوقاً، وهدوء سلبي بين الفرنسيين والأمريكان، ما أعطى المساحة الكافية للعلاقات الفرنسية-الروسية أن تأخذ دورها لا سيما في التنسيق حيال سوريا وبعض الملفات المشتركة، في ظل تنافس روسي-تركي في ليبيا.

يمكن أن يكون الملف السوري محطة لتجسير العلاقات بين روسيا التي تريد التقرب من أوروبا، وفرنسا التي تريد شريك قوي مندمج في كل ملفات المنطقة مقابل لواشنطن التي كانت مواقفها غير مطمئنة للجناح الأوروبي الذي تقوده فرنسا، وذلك ما قد يكون أحد أهداف ماكرون لتعزيز دور بلاده في سوريا من ناحية من خلال التوفيق بين خصوصية التفاهمات بين أوروبا والولايات المتحدة ويعيد توازن العلاقات إلى مستواها المثالي بعد توتر العلاقات الأوروبية الأميركية في عهد ترامب.

 ومن ناحية أخرى تستفيد فرنسا من روسيا كعمق أوروبي يساند الاتحاد الأوروبي، و تستبق أي تطور للعلاقات بين روسيا والولايات المتحدة قد يبعدها أكثر عن ملفات المنطقة، بهدف تقليل الأضرار والتداعيات السلبية التى قد تلحق بفرنسا وأوروبا في حال حصول هذا التقارب، وفي الوقت ذاته تستطيع من جذب روسيا في الوقت المناسب الذي تحتاج فيه إلى الاستيعاب الأوروبي.

وإضافة إلى ما سبق فإن تبرير التقارب الفرنسي مع روسيا، ينطلق من إمكانية تحديد باريس لأسباب فشلها في سوريا خلال السنوات الأولى من الأزمة السورية، حيث يتجلى ذلك من خلال دخول روسيا بكل ثقلها العسكري والسياسي والاقتصادي عام 2015. بمقابل تدخل تركي على اعتبار أنها "قوة إقليمية" في الملف السوري حيث أدت الظروف اللاحقة إلى تشكيل تفاهمات ثنائية مع موسكو، بالتوازي مع انحسار ملموس للدور الأميركي المباشر لصالح قوى أستانا (روسيا، تركيا، إيران)، ما دفع باريس لإعادة حساباتها والالتفاف على الدور التركي المتقارب مع روسيا، في ظل ابتعاد أميركي وتوتر مع الأوروبيين في الوقت نفسه، فكان الجانب الروسي الخيار الأكثر ضرورة لباريس -حتى الآن-.


مالك الحافظ

مالك الحافظ - كاتب صحفي و باحث سياسي سوري