يواجه الوجود الإيراني في سوريا الكثير من التحديات، ليس أبرزها فقط استمرار الضربات الإسرائيلية التي تستهدفه، و سياسة الضغط التي تمارسها تل أبيب على طهران من خلال علاقاتها الاستراتيجية مع روسيا والولايات المتحدة.
كذلك فإنه لدى كل من واشنطن و موسكو عقباتها الصعبة أمام طهران، فالأولى تملك بشكل رئيسي ورقة ضغط متمثلة بالاتفاق النووي و الشروط التي يمكن أن تفرضها على الإيرانيين من أجل إبرام الاتفاق تحقيقا لمكاسبها/شرطها من خلال مفاوضات فيينا، فيما تجهد الثانية إلى إخراج نفوذ طهران بشكل غير عاجل -حتى الآن- من أجل القفز خطوات مؤثرة في الملف السوري والتوجه نحو تدفق الأموال الغربية إلى سوريا و تحقيق مصالح أكثر استراتيجية لروسيا من سيطرة عسكرية على مساحات من سوريا لا تجدي نفعاً مع استطالة عمر الأزمة السورية.
لن يكون من المفاجئ إن أعلنت روسيا عن رغبتها بإخراج النفوذ الإيراني في سوريا بشكل كامل، فالروس لن يريدوا إيران كشريك دائم لها في سوريا. وبنفس الوقت باتت حجر عثرة سواء في مخططات مصالحه موسكو المالية عبر إعادة الإعمار، أو في تمتين علاقتها مع إسرائيل و الاتجاه ربما نحو علاقات بشكل مختلف بين دمشق و تل أبيب.
باتت روسيا ترى مصالحها في سوريا منذ توافقاتها الاستراتيجية مع تركيا في سوريا (مطلع عام 2020) من البوابة الاقتصادية والدخول في مرحلة إعادة الإعمار، ولعل التواجد الإيراني في سوريا، أحد أبرز تلك العقبات التي تؤخر المجتمع الدولي في الانخراط بتلك المرحلة ودعم مشاريع إعمار البنى التحتية من خلال مشاركة روسيا بتوريد الأموال إلى سوريا.
تحاول روسيا استقطاب الدول الأجنبية للمشاركة في إعادة الإعمار بسوريا، و هي تدرك أنها لن تستطيع لوحدها و في ظل وجود إيران أن تقوم بإعادة الإعمار، كما يقول الباحث الروسي المتخصص في شؤون الشرق الأوسط، أندريه اونتيكوف لـ "السوري اليوم".
ويعتبر الباحث الروسي بأن موسكو لا تطلب فقط تقليص النفوذ الإيراني، و إنما مشاركة الدول الغربية من أجل إعادة الإعمار و تقوية النفوذ الروسي في سوريا خلال الفترة المقبلة.
ضغوط روسية تُمارس على إيران بشكل غير مباشر، من خلال تحركات ديبلوماسية عن طريق تطبيع العلاقات السورية مع المحيط العربي، وما يتصل بهذا الملف، كالعلاقة مع إيران ودورها في المرحلة المقبلة. ويتجلى ذلك في إحدى المؤشرات، عبر زيارة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف على رأس وفد إلى دول خليجية عدة مطلع آذار المنصرم. في المقابل فإن علامات قلق كانت زادت ملامحها على وجه العلاقات الروسية الإيرانية، ولعل أكثر ما كشف عن أزمة الثقة هذه، رسالة علي خامنئي (مرشد الثورة الإسلامية في إيران) إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، مطلع آذار الماضي، حيث بدت و أنها تُحذر القيادة الروسية من التباطؤ في تنفيذ التزاماتها وبخاصة في العلاقات مع إيران، وفق الديبلوماسي الإيراني السابق أمير موسوي.
و يبدو أن توقيت الرسالة بالتزامن مع ازدياد التحركات الروسية في الملف السوري، لا سيما الدفع باتجاه إعادة سوريا الى جامعة الدول العربية وتعميق علاقاتها مع خصوم طهران في المنطقة؛ يزيد من المؤشرات التي تصب في خانة "عدم التفضيل الروسي لوجود إيراني استراتيجي".
لم يكن التحالف بين روسيا و إيران في الملف السوري، كامل الأركان، في ضوء التعارضات البنيوية بينهما وتضارب المصالح في مسائل عديدة، لكن المصلحة الروسية في استخدام العنصر الإيراني على الأرض خلال فترة القتال البري حالت دون رسم أية حدود روسية للنفوذ الإيراني، حتى الوصول إلى بداية النهاية عندما قال لافروف في شهر أيلول من العام الماضي أن المعارك بين دمشق ومعارضيها في الشمال قد انتهت، ما يعني أن الحاجة لإيران على الأرض لم تعد كما في سنوات سابقة، في وقت تزايدت فيه الضربات الإسرائيلية على الأهداف الإيرانية بمناطق مختلفة من سوريا.
لقد كان الافتراق الإيراني الروسي في سوريا، بارزاً في عدة مناحي، لكن الأبرز فيها تمثل في التنسيق والتفاهم الروسي-الإسرائيلي، حيث فتحت موسكو خطوط التشاور مع الإسرائيليين بخصوص الضغط على الإيرانيين لالتزام الخطوط الحمراء الإسرائيلية، حيث تمتعض إيران لما لهذا التنسيق من آثار سلبية على المكاسب الإيرانية في سوريا، لاعتباره ضوءاً أخضر روسياً لإسرائيل لاستهداف التمركزات الإيرانية في الأراضي السورية، وفق ما أفادت به دراسة لـ "المعهد الدولي للدراسات الإيرانية"، وذلك في وقت دخلت فيها سوريا مرحلة حصر الغنائم والمكاسب، و أن تنسيق الروس مع إسرائيل قد يجعل إيران أمام معادلة جديدة في سوريا ليست في صالحها، ما يعني احتمالية تبديد نفوذها نهائيا من هناك.
إن كل ما تفعله إسرائيل ضد إيران في سوريا هو بضوء أخضر أميركي و روسي، وما التحركات الإسرائيلية التي تحصل هناك إلا بتنسيق مع روسيا كون الأخيرة تهيمن بشكل لافت في سوريا، بحسب الباحث المتخصص في الشؤون الإيرانية، حسن راضي، الذي رجّح خلال حديثه لـ "السوري اليوم" من لندن، بأن الضغوط الإسرائيلية الروسية الأميركية ستتضاعف على إيران خلال الفترة المقبلة من أجل تحجيم النفوذ الإيراني بفعل الرفض الإقليمي لإيران، ووجود التنافس الروسي الإيراني بخاصة بعد انتهاء المعارك في سوريا و انتفاء الحاجة للميليشيات التابعة لإيران في سوريا من أجل أن تستخدمها روسيا لتغذية مصالحها
خروج سوريا من دائرة المشروع الإيراني لا تعني خسارة حليف فقط، بحسب "مركز الجزيرة للدراسات" بل تعني كسر ظهر المشروع الإيراني في المنطقة، كون سوريا بنظامها الحالي تعتبر حلقة الوصل الأكثر أهمية في حلقات ذلك المشروع.
ويبدو أن علاقة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وإيران معقدة جداً، وفق ما كشفته تسريبات عن كتاب مستشار الأمن القومي الأميركي السابق، جون بولتون، "الغرفة التي حدث فيها ذلك"، فكشفت أن ما يدور في الكواليس حول موقف روسيا من التواجد الإيراني في سوريا يختلف تماماً عما يتم إظهاره في الفترة الماضية على العلن بحيث ما تزال تعتبر بعض التقارير و التحليلات وفق تلك الرؤية أن علاقة التحالف في سوريا بين إيران و روسيا مستمرة بدون أية حدود و ضوابط.
يشير بولتون في كتابه إلى أن الرئيس الروسي بوتين، كان قد أبدى رغبته الصريحة لواشنطن، بحصول انسحاب إيراني من سوريا. حيث يبيّن بولتون، في كتابه إن الحديث مع بوتين خلال اللقاء الذي جمع بينهما في هلسنكي في أيار 2018 تركز حول سوريا، وقد قال بوتين "رغبتنا في رؤية القوات الإيرانية تنسحب من سوريا.. من سينجز ذلك؟". و يتابع بولتون: "كانت هذه واحدة من تلك اللحظات التي توجه فيها بوتين إلي، وقال إنه يجب أن أخبر ترامب مباشرة بأن الروس ليسوا بحاجة إلى إيرانيين في سوريا، وإن الشيء الصحيح الذي يجب أن يفعله كل منا هو تحفيزهم على المغادرة، وبأنه لا توجد مصلحة لروسيا في وجودهم هناك".
تبدو روسيا أنها تتحين الفرصة خلال المرحلة المقبلة للتقارب أكثر في الملف السوري مع بروكسل وواشنطن وذلك في ما يخص إخراج النفوذ الإيراني بشكل رئيسي، إضافة إلى الضغط على بشار الأسد للعودة إلى عملية سياسية تفضي إلى انتقال سياسي. في هذا السياق تعمل موسكو على أكثر من اتجاه، عسكري و سياسي تفاوضي للوصول إلى مبتغاها، لا سيما مع دخول عقوبات قانون قيصر الأميركي حيز التنفيذ، وإعلان أوروبا أنها ستلتزم تطبيقه، وهي العقوبات التي ترافقت مع خنق اقتصادي كبير دفع لتدهور في إيران وأضعف شيئا من قدرتها المالية، في المقابل تريد موسكو استغلال هذه العقوبات للتضييق على أي مناورة دمشق تذهب من خلالها للتقارب مع طهران والضغط على موسكو، أو حتى أن تراوغ طهران تمارس عليها من قبل موسكو أو واشنطن خلال فترة قريبة مقبلة.
لعل الروس باتوا بحاجة إلى استثناء إيران من استراتيجيتهم في سوريا، لكن ذلك لا يعني على الإطلاق تخلياً كاملاً عن طهران خلال فترة سريعة، ليس حباً بالنظام السياسي هناك، وإنما لتكون ورقة مفاوضات مع الجانب الأميركي والإسرائيلي.
في الجانب الآخر وعلى صعيد الولايات المتحدة فإن إدارة الرئيس جو بايدن و إن ستتعامل بشكل أقل عدائية من إدارة ترامب تجاه إيران، إلا أن النفوذ الإيراني في سوريا لن يقبل به بايدن طالما أن ذلك النفوذ سيُبقي أسباب التصعيد مستمرة في سوريا.
العلاقة بين إدارة بايدن و طهران ستكون مضطربة، ولا بد أن الأولى ستعمل من أجل الضغط على روسيا من أجل التنازل في ملفات أخرى، ليتاح لها المجال بشكل أوسع الضغط على إيران من خلال الدول الأوروبية، وذلك وفق ما يراه عضو الحزب الديمقراطي الأميركي، السياسي المصري الأميركي مهدي العفيفي، متحدثاً لـ "السوري اليوم" من مدينة نيويورك.
تستخدم إيران أوراقها في سوريا لمحاولة التخلص من الضغوط الأميركية في الملف النووي، بحسب عفيفي، لذلك فإن وصول الطرفين لحل في الاتفاق النووي أو محاولة واشنطن التقدم بخطوة في الملف النووي سيؤثر بشكل كبير في ملفات أخرى و على رأسها سوريا.
كذلك فإن الضغوط الاقتصادية التي واجهت إيران منذ انسحاب إدارة الرئيس الأميركي الأسبق، دونالد ترامب، برزت بشكل أكبر في النصف الأول من العام الماضي، حيث تقلصت الإمدادات الإيرانية للميليشيات الموالية لها في بلدان المنطقة؛ ففي حين أشار أمين عام "حزب الله" اللبناني، حسن نصر الله، إلى أثر العقوبات على انخفاض الدعم الإيراني لتنظيمه، فإن مصادر ميدانية من قادة الميليشيات العراقية أكدت لوكالات أنباء عالمية أن المساعدات الإيرانية شهدت تقلصًا منذ بداية العام الفائت بفعل العقوبات، مؤكدةً أن الأشهر الأربعة الأولى من ذلك العام شهدت ارتفاع وتيرة تقلص الدعم نتيجة تفشي فيروس كورونا، وتفاقم الأزمة الاقتصادية الإيرانية، وإغلاق الحدود بين العراق وإيران.
وبطبيعة الحال، سوف يؤدي تقلص الدعم الإيراني للميليشيات إلى تغيير السلوك لدى هذه الميليشيات، أو لدى أجزاء منها على صعيد الاستراتيجيات والانتماء؛ وفق دراسة لمركز "الإمارات للسياسات" إذ من شأن هذه الميليشيات (وخصوصًا في العراق وسوريا) أن تبحث عن مصدر دعم بديل للتمكن من صرف رواتب المنتسبين. وفي حين تشير الأنباء إلى بوادر مثل هذا السلوك لدى الميليشيات الموالية لإيران في سوريا (حيث أصبح لدى بعضها رغبة في الاقتراب من روسيا للحصول على مصادر دعم مالي)، وهو ما قد يساهم أكثر في تحجيم النفوذ الإيراني بسوريا، وهو ما يمكن أن يكون إحدى أوراق إدارة بايدن أيضاً خلال الفترة المقبلة.
شروط إدارة بايدن في أي اتفاق نووي جديد أو مُعدّل مع إيران، لا بد أنه سيتبعها شكل مختلف للتواجد الإيراني في المنطقة، ابتداء باليمن التي يريد بايدن إنهاء الحرب فيها، و امتدادا للعراق فسوريا، بخاصة و أن الوجود الإيراني في سوريا، بات يعتبر قنبلة موقوتة تجاه إسرائيل، و ذلك لما يُشكله هذا الوجود من محطة ربط أساسية بين خط نقل الأسلحة بين العراق ولبنان.
إن التعامل الأميركي مع إيران في الاتفاق النووي، لا يمكن فصله عن تعامل واشنطن مع الوجود الإيراني بسوريا، بحسب المستشارة في العلاقات الدولية، عضوة الحزب الجمهوري الأميركي، مرح البقاعي، التي تتحدث لـ "السوري اليوم" من واشنطن بأن من الشروط الجديدة للاتفاق النووي المفترض، سينتج عنه وقف دعم الميليشيات الإيرانية في سوريا، والذي يتبعه خروج النفوذ الإيراني من سوريا.
إن التواجد الإيراني في سوريا، هو ركن رئيسي معرقل للعملية السياسية في سوريا، طالما أن طهران هي محرك التصعيد وعدم الاستقرار بسبب عناصر نفوذها الذين تستهدفهم إسرائيل، ولطالما أنها خصم إقليمي لدول عربية فاعلة في الملف السوري، وخصم سياسي مثير للشغب ويتعرض للعزلة من غالبية المجتمع الدولي منذ سنوات طويلة. فضلا عن أن ذلك يؤثر على استحالة الدخول في مرحلة إعادة الإعمار الذي يربطه الغرب بالانتقال السياسي الكامل.