واضح للعيان مدى التباعد، حدّ التضارب في المصالح، بين الأمريكان والأتراك في سوريا، ففيما تعمد واشنطن إلى بناء تحالف استراتيجي وتأسيس شراكة مستدامة مع سكان ومواطني منطقة الجزيرة السورية وخصوصا الكرد، تكون لبنة أساسية وقاعدة أمامية لمواجهة الإرهاب ومواجهة أي قوى متطرفة في المنطقة مستقبلا؛ تعمد أنقرة لتأسيس شراكة مستدامة مع سكان ومواطني الشريط الحدودي، وخصوصًا أهالي أرياف الرقة وحلب وإدلب الشمالية، وبناء منطقة محاذية آمنة تقيها مخاطر إرهابية محتملة، ومخاطر أي مواجهات متوقعة مع الكرد السوريين أو تسلل أي دعم من أي نوع لمن تعتبرهم انفصالين من كرد تركيا.
حتى الآن وفي المدى المنظور يبدو الأمريكان والأتراك مرتاحين للوضع الحالي، فالتفاهمات بين الطرفين تحفظ الحد الأدنى من الأمن والسلام في منطقتي النفوذ الأمريكية والتركية على الأرض السورية، وفي شريط التماس المباشر بينهما، لكن إلى متى؟ وأين مصالح السوريين أنفسهم في المنطقتين؟.
لكن ولأن لاشيء دائم في السياسة إلا تغيّرها وتقلباتها، كما يقال، والوضع الحالي مصيره إلى التغيّر والتبدّل، والأجواء مآلها إلى مزيد من التلبّد أو مزيد من الصّفاء، فإن هذا يضعنا أمام سيناريوهات متوقعة بعضها يهدد أمن واستقرار المنطقة وسوريا كلها والسوريين جميعا، وبعضها من شأنه أن يعزز أمن واستقرار المنطقة وسوريا كلها والسوريين جميعًا أيضًا.
من هذه السيناريوهات، سيناريو المواجهة: وهو ليس في صالح أحد ولا يحقق أي فائدة لأي طرف، اللهم إلا رغبات الصقور والمتطرفين وحاجات الموتورين قصيري النظر في تدمير الذات وتعميق الشرخ بين الفرقاء وشركاء الوطن. ولا أعتقد أن العقلاء من الجانبين يفكرون به أو يريدونه، وكذلك الحال بالنسبة للأمريكان والأتراك المتنفذين في المنطقة لا يريدونه وهم في غنى تام عنه، ومهما قرعت الطبول له يظل سيناريوهًا مستبعدًا.
سيناريو آخر، بقاء الحال على ما هو عليه مع انغلاق كل طرف على نفسه ومعاداة كل طرف للآخر مستفيدًا من دعم حلفائه، وهذا قد يصل إلى نهاية شبه حتمية هي اندماج مناطق نبع السلام ودرع الفرات وغصن الزيتون مع ما يحاذيها من المناطق التركية شيئا فشيئا إلى أن تصبح تركية خالصة عقب استفتاء قد تضغط تركيا لتنفيذه وانتزاع اعتراف دولي به. كما قد يصل بمنطقة الجزيرة لتصبح دولة مستقلة كثيرة الأعداء محدودة الأصدقاء غير قادرة على الاستقرار مهما سعت إلى ذلك سبيلا. وساعتها لن تنتهي المشكلات السورية أو الكردية أو التركية بل ستبدأ.
ثم هناك سيناريو، اتفاق سلام بين الطرفين السوريين؛ الإدارة الذاتية في الجزيرة من طرف والإدارة المحلية في منطقة نفوذ المعارضة من جهة أخرى، الأمر الذي يتوقع أن يحدّ كثيرًا من التدخلات الأمريكية والتركية، وهو بالمناسبة ليس مطلبًا سوريًا فقط؛ بل أيضًا مطلب الأمريكان والأتراك أنفسهم. فلا حكومة ولا نظام في العالم يجلب لنفسه صداعًا لا نهائيًا جراء تدخل خارجي أيًّا كانت مبررات هذا التدخل وفوائده. وها هي واشنطن اليوم تنسحب من أفغانستان عقب عشرين عامًا من التدخل العسكري كلفها أرواح الآلاف من جنودها وأموالا طائلة كان الملايين من مواطنيها الفقراء أولى بها، ولا يبدو أنها حققت أيًّا من أهدافها المعلنة، اللهم إلا بعثرة تنظيم القاعدة ونثره في كل أنحاء العالم. فنجاحها بإخراج التنظيم من أفغانستان وتشريده في دول أخرى لا يقاس بما تستحوذ عليه طالبان من قوة وشعبية تكاد تنقضّ بها على الدولة برمتها لتستحوذ عليها وتنشئ أكبر "ملفى" للمتطرفين والمتشددين في العالم دون أي ضمانات بألا يعيدوا كرّة ما فعلوه في نيويورك سنة 2001.
وليكون سلامًا مستدامًا يجب تحييد وإلغاء كل مظاهر وعناصر المواجهة العسكرية وتطبيع الأمن بين المنطقتين ذاتَي الحكم الذاتي، وبناء شراكات اقتصادية بين الجانبين وفق عقود واتفاقات تبادل مشترك لكل ما تحتاجه أي منطقة من الأخرى مع عودة النازحين وحرية الحركة للأفراد والبضائع.
وهذا يعطي الجانبين فرصة أكبر، ليس لاستقرار منطقتي نفوذهما؛ بل يفتح الباب للتفاوض مع من تبقى من أطراف لبناء سلام شامل في سوريا ينطلق من حل المشكلات بين المعارضة ومسد، والجيش الوطن وقسد، تمهيدًا للوصول إلى حل كل مشكلات البلد السياسية والأمنية والعسكرية واندماج الجميع في واقع سياسي وأمني وفق أسس دستورية تجعل من سوريا بلدًا لا مركزيًا، كل منطقة مدارة من قبل أهلها وقاطنيها، مع إنهاء التواجد العسكري في الحواضر وانسحاب الفصائل المسلحة إلى سكناتها، ومناقشة فرص اندماجها في جيش وطني عام موحد يتحول إلى مهام محددة دستوريًا محصورة في حماية الحدود والتدخل استثنائيًا في حال الكوارث الطبيعية لأداء مهام دفاع مدني.
وهنا يجدر بالطرفين، كما يستغلان أي تباعد أمريكي تركي للحصول على دعم ومكاسب؛ استغلال أي تقارب بين الدولتين والسعي باتجاه حل مشكلة تجاورهما الجغرافي لصالح اتفاق سلام يعيد المياه لمجاريها ويؤسس لما يطمح إليه الجميع من تعايش، طالما أنهما يناديان بذلك ويعلنان عنه في أدبياتهما وخطاباتهما السياسية.