منذ نحو ثمانية آلاف سنة بدأ عصر الجفاف الذى أجبر سكان الهضاب المصريةعلى الهبوط نحو وادى النيل ، ليبدأ أحدث العصور الحجرية (النيوليثى) ،فتتكون المجتمعات ، وتنشأ القرى، ويستأنس الحيوان ، وتزرع الأرض، ويقيم المصريون أقدم حضارات الدنيا فى: نقادة ، والبدارى ودير تاسا ، وإسنا ، ومرمدة بنى سلامة، وعمرة ، وجرزة ، والمعادى والفيوم وغيرها .
ولأن المصري القديم يريد المياه ليشرب ويسقى حيواناته ويزرع ..فكان لابد أن يحيا بالقرب من النيل يبحث عن تلة ترتفع عن الأرض قليلا أو يصنع كوما من التراب ليكون بمنأى عن الفيضان وخاصة لو كان عاليا، وهكذا وجد المصرى القديم نفسه فى قلب طبقات الطمى التى يرسبها نهر النيل منذ ملايين السنين،
وفى الطريق إلى النهر وخاصة إذا كان الطمى طريا، تصنع أقدامه وأقدام حيواناته أشكالا متنوعة وحفر غائرة فى الأرض تحتفظ بالماء حتى لو كان شط النيل بعيدا .
هكذا عرف المصرى كيف يصنع من ذلك الطمى الطرى أو الطين اوعية ، عن طريق "الترقيق" أو "الحبال" فصنع أوان متنوعة ومتعددة الأشكال: قلل وأباريق وأطباق وطواجن وبرام وبرانى ومواجير وأزيار وبكلات وزلعات ومترد وبقوش وزبدية ومصابيح وتماثيل..
ويعد أقدم تمثال للإله من الفخار فى العالم تمثال مرمدة بنى سلامة نحو 5000 سنة ق م، ثم عرف كيف يحرق ذلك الطين لتتحول تلك الآنية إلى فخار صلب لايذوب فى الماء، وعرف كيف يستخدم الألوان المناسبة لرسم الموضوعات الدينية والأسطورية والاجتماعية على تلك الأوانى، ومع بداية عهد الأسرات عرف المصرى القديم دولاب الفخار فأصبح يصنع أوانى أدق وأجمل وأكبر، وقد استخدم تلك الأوانى فى تبريد الماء للشرب وحفظ الزيوت والسمن والغلال والدقيق والعسل وتمليح الأسماك وتخزين الجبن "جبن المش"، ونقل الماء من النيل للدار،
ولأهمية الفخار فى حياة المصريين القدماء فقد عرفوا الإله خنوم الذى صاغ البشر من الطين على دولاب الفخار، ولا شك أن استخدام المصريين للفخار أسبق بكثير من استخدامهم للأحجار التى تحتاج مهارات ومعارف أعقد بكثير، وعملت، واستمدت اسمها من عملها ،كثير من الأسر فى الفخار ومنها عائلة الفخرانى والفواخرى وفواخرجى، والقللى.
واحتلت أوانى الشرب وخاصة "القلل" مكانة خاصة فى الثقافة المصرية، وخاصة فى قرى ومدن تتسع وتبتعد عن شاطئ النيل رويدا رويدا، وفى مناخ تشتد حرارته لثمان أو تسع شهور فى العام،
وفى القيظ وبعد مشوار طويل ، يصبح الوصول الى الماء البارد من قلة فخار "أملا عزيزا" وعندما تمشى فى الأحياء الشعبية ستجد صاحب دكان يضع أمام دكانه عددا من القلل المملوءة للسابلة طمعا فى الرضى والثواب، وكانت هناك قلل الفقراء الخشنة والثقيلة نوعا بلونها الطوبى وأذنيها وتسمى "برادية" وهناك القلل الرقيقة ذات اللون "الطحينى"، وهناك الأباريق بألوانها المختلفة ذات "البزبوز" وهناك قلة السبوع المجهزة كشمعدان.
ويقول المثل للشخص الذى لا نرغب فى عودته "إكسر وراه قلة" وهو مثل فرعونى، حيث كانت مقابر الدولة الحديثة يسد سقفها بقلة وكان كسر القلة إيذانا بنزول الرمل مكان الكسر للتغطية تماما على مكان المقبرة،
الرمز
ويقال فى التاريخ أن "كابتن بول" قتيل الإنجليز فى حادثة دنشواى كان يسقيه أحد الفلاحين من قلة ومع هذا مات من ضربة الشمس، وفى السينما اشتهرت فى فيلم العزيمة قلة "محمد الفار" السكير الذى كان يملأ القلة بالخمر ويمضى بها فى إى مكان بحجة أنه يعانى من "الزغطة" الدائمة، وهناك قلة محمد أبو سويلم فى فيلم الأرض التى رفعها ليشرب فوجدها فارغة فنهر ابنته وصيفة قائلا: حتبقي انتى والحكومة؟
الموروث الشعبي
وكانت القلل تعبر عن درجة النظافة والاهتمام الذى تتمتع به الأسرة إذ كانت توضع فى صينية خاصة بعد غسيلها ودعكها وتبخيرها وربما توضع قطرات "ماء الورد أو ماء الزهر" مع مائها، أو توضع فى أفواهها أعواد النعناع الأخضر، وتغطى بشاش أبيض وتغطى أيضا بغطاء جميل يشبه الجرس كان من الفخار او النحاس يعلوه حمامة او تمثال أبو الهول أو تمثال نهضة مصر، وكان عيبا كبيرا أن يرفع ضيف القلة، ليجدها فارغة، وبعد نجاح ثورة يوليو لم يجد عبد الناصر، ليعبر عن نهاية عهد الأرستقراطية الملكية ذات النياشين وبدلة التشريفة " الرودنجوت"، ودخول مصر عهد الفقراء من العمال والفلاحين سوى صورته جالسا على مصطبة وهو يشرب من القلة.
الاغنية المصرية
ولذلك فقد احتفت الاغنية المصرية بالقلة حفاوة كبيرة ولتكن البداية مع العبقرى سيد درويش الذى يغنى: "البحر بيضحك ليه وانا نازلة أتدلع أملا القلل"، ويغنى وهو يدعو لتشجيع الصناعة الوطنية: "مليحة اوى القلل القناوى/رخيصة أوى القلل القناوى/ قرب حدانا خدلك قلتين/ خسارة قرشك وحياة ولادك/ على اللى ماهوشى من طين بلادك"
ويبدوا أن لقنا (المدينة الصعيدية )أهمية خاصة فى صناعة الفخار لوفرة طبقات الطفلة وطمى النيل الغزير نتيجة ثنية قنا المعروفة، وفى أغنية أما براوة تغنى نجاة: قلة حبيبى ملانه وعطشانا يا انا/ اروح له ولا اروح اشرب حدانا/ أروح وله اروح بلاش شقاوة/اما براوة على الشقاوة" وتغنى فايزة: "يا امه القمر سهران مسكين بقاله زمان عينه على بيتنا/ باين عليه عطشان وحد من الجيران وصف له قلتنا/ اسقيه ينوبنا ثواب ولا اناديله" وتغنى فايزة احمد أيضا من كلمات الابنودى "مال عليا مال فرع من الرمان كلمنى عن بيتنا الطيب واللقمة الحلال/ مال على ايدى قلت اه يا يا ايدى/ قاللى سلامة ايدك دانتى قلة العطشان" وفى مال لمحمد طه ينشد:" عطشان يا صبايا ياحلوة يافلة يا شايلة القلة وماشية بتتهادى" وتغنى المجموعة: "تعيشى يا بلدى يا بلدى تعيشي ياقلة العطشان يابلدنا/ ياضلة الحران يا بلدنا/يا شمية البردان يا جنة الانسان يابلدنا" اما صلاح جاهين وسيد مكاوى وصباح فهم يقولون: أنا هنا يا ابن الحلال لا عايزة جاة ولا كتر مال/ ماليت لك القلة عطشان تعالى ياجميل يللا/ ماليت لك الأبريق عطشان تعالى وسلامة طريق/ فرشت لك رمشى اخطر عليه وامشى من شوقى مابنامشى/ حستنى حتى العمر مستنى" أما عمنا الراحل نجيب شهاب فيكتب من غناء الشيخ امام: "سايس حصانك ع القنا وتعالى/ تلقى القليلة مبخرة وملانة/ الصدر مرمر والنهود عريانة، مديت ايدى ع النهود اتفرج/نطرت دراعى يا دراعى يا انا" أما نجيب سرور فقد عزف على لحن سيد درويش ولكن برؤية تختلف تما فهو لا يرى البحر يضحك وانما يراه غاضبا أشد الغضب فيقول ويغنى الشيخ امام: البحر بيضحك ليه وانا نازلة اتدله أملا القلل/ البحر غضبان ما بيضحكش أصل الحكاية ما تضحكش/ البحر جرحه ما بيدبلش وجرحنا ولا عمره دبل/ قللنا فخارها قناوى بتقول حكاوى وغناوى/ يا قلة الذل انا ناوى ما اشرب ولو فى المية عسل/ والبحر بيضحك ليه وانا نازلة اتدلع املا القلل" وتغنى دنيا مسعود غناء لا يخلو من ايحاءات:" حن ع القلة دا الغريب حن ماتحن ع القلة/ وضفايرى دول اللى انا طلقاهم هما سلف ولا انا جادلاهم/ يادى الدلع ياللى انت وياهم شبان بلدنا اللى انا فايتاهم/ ماتحن ع القلة دا الغريب حن" أما عم متقال قناوى فداخل على طمع، يترصد العائدة من النيل تحمل بلاصا مملوءا بالماء ليغنى:"ياحلوة ياشايلة البلاص من فضلك اتدلى اسقينى/ انا قلبى يحبك باخلاص زى ما احبك حبينى" ومع هذا فله موال جميل يقول: "عجبى على بنت بيضا واسمها فله/ سابت القناية وراحت تشرب من القلة/ سهران ليالى وليالى بستنى م الحلو طله"...
ويستمر الغناء وتستمر الدهشة